أي أثر خلَّفه لهذا الجيل علماء الأجيال السابقة فأفادت منه الثقافة الإسلامية وأصبحت مرجعا خالدا من مراجع الفكر العالمي في كل زمان ومكان؟.

ولم تكن وسائل الدرس والتحصيل ميسرة موفورة كما هي اليوم.. وإننا لنذكر الآن كيف كان يُتلقى الحديث الشريف ويُتتبَّع مصادره وعلماؤه.. إمامٌ كالبخاري مثلا أو مسلم، وكيف كان يدَرِّس الفقهَ علماؤه الأجلاء لاستنباط الأحكام باجتهاد وإخلاص لم يكونوا يبتغون بهما سوى العلم ووجه العلم وحده؟، ونذكر – على سبيل المثال – سيرة كسيرة الإمام الشافعي أو سيرة الإمام أحمد بن حنبل، فنجد أنها سيرة كفاح طويل يُدهش ويُبكي أحيانا، ولكنه كان في النهاية كفاحا رائع النجاح منذ كنا ولا نزال نحيا في ضوء آثاره الخالدة إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم.

وفي مجال الأدب واللغة العربية والتاريخ وأي مجال ثقافي آخر هل نحن واجدون في تلك المجالات أو بعضها، من تعلم وأنتج كما أنتج سيبويه مثلا، أو ابن هشام والجاحظ، أو ابن خلدون؟. إنك تقلب الآن أي كتاب من كتب هؤلاء، فتدهشك القدرة الهائلة فيها على جمع الحقائق والمعلومات، وتركيز القواعد ورفض سائر الاحتمالات الراجحة، ثم ما قد يتعلق بذلك من الأمثلة والشواهد، فلا تملك سوى أن تقول: أي رجال كان هؤلاء الرجال؟ وأي ذخيرة كنا سنخسرها لو لم يُوجَدوا بهذه الروح وبهذا الإصرار على أن يبلغوا ما بلغوه في عالم المعرفة والإنتاج؟، وستشك في مصير هذه اللغة وقواعدها لو لم يكونوا لها حفظة مخلصين.. أفَلَسْنا إلى اليوم عالة عليهم؟ وحتى إذا نحن حاولنا الخروج عن منهجهم إلى المنهج العصري فالمرجع إليهم، وعنهم نقتبس ونكوِّن لنا ولأبنائنا كل منهج جذاب.

لقد وجد هؤلاء في ظروف لم يكن تحصيل العلم والدرس والإنتاج سهلا فيها.. على أننا لا ننكر هدوء الحياة ودواعيها في أيامهم، وقلقها واضطرابها في أيامنا، غير أن مثل هذا لن يلغي حقيقة واحدة وهي أن طلاب العلم عندما يكرِّسون أنفسهم للتحصيل إنما ينقطعون عن كل ما عداه، وينسون كل شيء آخر سوى العلم وسوى طريق العلم.. ويعني ذاك: أن المسألة ليست مسألة واقع الحياة، بل مسألة واقع النفوس التي تعشق العلم بإخلاص عاش الأقدمون بذخيرته التي لا تنفد، فكان منهم علماء لا يشق لهم غبار، وافتقده أبناء هذا الجيل الحائر، فكان حسبهم من الشروط أن يقفوا عندما تركه أولئك وعرَّفوه.. ولا ننكر وجود أفراد من العلماء في هذا الجيل، ولكنهم أقليَّة ضائعة.. على أنني أتساءل عن الصوت الذي كان يجب أن نسمعه منهم خلال المحن القاسية التي اجتازها العرب والمسلمون، فإذا هو – كما أظنه – شخير لا يكاد ينقطع، أو لعله دون الشخير، منذ كان أنفاسا باردة تكاد تلفظ الحياة..!

* أضواء على الطريق