منذ كنّا صغارا ونحن نسمع على ألسنة من حولنا من الرجال والنساء من يقول: «وجود كبار السن في أي أسرة خير ورحمة وبركة»، وقد صدق أهلونا في هذه العبارة البسيطة في تركيبتها، العظيمة فيما شملته من معان سامية، إذ أجدها تختصر كثيرا مما نود قوله، ونحن اليوم نتفاعل مع مناسبة عالمية هي «اليوم العالمي للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنين».

هذه العبارة الجميلة جعلت وعيي المعرفي -بعدما قرأنا وتعلمنا- يفسرها، وكأن أهلينا يؤكدون على قول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قوله: «البركة مع أكابركم»، وصدق رسول الله فداه أبي وأمي.

لكبار السن -أو كما أسماهم حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد «كبار المواطنين»- في أي مجتمع منزلة كبيرة، خاصة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فكبر السن مرحلة عمرية قد يبلغها كل من طال عمره ليصل إلى مرحلة يعود فيها ضعيفا كما بدأ. وهذه هي دورة العمر ومراحله التي لا مفرّ منها، والرسول الكريم قدم لنا أول الدروس في توقير كبار السن واحترامهم وإنزالهم منزلتهم، فقال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم». ورسم لنا منهجا في هذا الاتجاه نحو السلوك القويم في مدرسة الأخلاق التي يجب أن يتعلم فيها كل مسلم مكارم الأخلاق، فقال: «ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا».

ومن يتأمل في كثير من العبادات، سيجد أن الدين العظيم كان منهجا في الدعوة إلى مراعاة كبار السن، رحمة بهم وشفقة عليهم، لظروفهم الصحية وكبر سنهم وعجزهم، حين دعا الإمام في الصلاة أن يخفّف، مراعاة لكبار السن المصلين خلفه، وحين سمح لمن يعجز عن أداء الصلاة قائما أن يصليها جالسا، وفي الصيام له أن يفطر إذا لم يعد يقوى على الصوم، لعلة من مرض أو عجز، ويتصدق عن يوم صيامه الفريضة، وله في الحج أن ينيب غيره إذا لم تعد تسعفه قواه على الحج، هذه الرحمة في العبادات هي شفقة بكبار السن، ومراعاة لظروفهم العمرية من المشقة التي قد تلحق بهم.

وفي حياتنا الاجتماعية، نجد أن كبار السنّ لهم علينا حقوق يجب أن نؤديها، كي نشعرهم بالتقدير والاحترام، وأنهم ما يزالون أحياء بيننا، ومكانتهم ما تزال باقية وكبيرة، كآباء وأمهات وأجداد وأعمام وأخوال، وليس حسب تقدير بعضنا الخاطئ -وهم قلة- حين يتعاملون مع كبار السن بجفوة أو قسوة أو عدم تقدير، وكأن كبار السن يعيشون على هامش حياتنا، أو كأن أيامهم باتت قليلة، أو كأنهم فقدوا كل شيء «الذاكرة، الهيبة، القوة، الشباب»، وما علم من يفعل هذا أن هذا المصير مصير كل حي، إن أمّد الله في عمره، لأن هذه سنن الحياة، ولذلك كان رسولنا الكريم يدعو ويقول: «اللهم إني أعوذ بك أن أُرد إلى أرذل العمر»، وفي حديث آخر: «وأعوذ بك من الهرم».

واسمحوا لي وأنا أتطرق إلى مراحل العمر ومتغيراته، أني تذكرت بيتين من الشعر دونتهما في وريقة، استدعاني موضوع المقال إلى استحضارهما، أظنهما مناسبين، لذي الأصبع العدواني قال فيهما:

أصبحت شيخا أرى الشيخين أربعة... والشخص شخصين لما مسني الكبر وكنت أمشي على الرجلين معتدلا... فصرت أمشي على ما تنبت الشجر «يقصد العصا».

وحقيقةً، إن مجتمعنا -خصوصا- جُبِل بطبيعته على احترام كبار السن، والمسارعة إلى الحضور إليهم في المناسبات الدينية والاجتماعية في محالهم، وإنزالهم في صدر المجالس، وتقديمهم في الطريق، وعند الجلوس إلى الموائد في المناسبات والاحتفالات، وهي صورة من صور التراحم في معناها العام بين أبناء المجتمع، رغم رصدنا ما قد يصدمنا ويخدش هذه الصورة الجميلة عن مجتمعنا، من بعض التصرفات غير الصحيحة، وإن كانت من فئة قليلة من صغار السن، أو فئة بحاجة إلى الإلمام بآداب التعامل مع كبار السن.

على سبيل المثال لا الحصر، ترى شابا يجلس على مقعد في «باص النقل» في المطارات مثلا، بينما كبير السن يقف إلى جواره أو أمامه، أو تجد الصغار يسابقون الكبار في المناسبات العامة في الاستراحات والصالات، وهم في طريقهم إلى الجلوس إلى صحون الطعام، أو تسمع من يقول عن والديه أو كبار السن في أسرته «الشايب والعجوز»، أو من يصور والديه في مواقف يتصّنعها، يرى فيها أنها ستُضحك الآخرين، ويتم تداولها في وسائل التواصل الاجتماعي للتندر، وهي حقيقة لا تليق بمن هم يستحقون التقدير لا الاستهزاء والسخرية.

والأشنع من ذلك، وأجد الحديث عنه صعبا ومؤلما، أن تجد من يطرد والديه من منزله، أو قد يمدّ يديه عليهما، أو يهجر زيارتهما، أو يرتكب كبيرة العقوق ثم يناصبهم العداء فوق ذلك.

أنا أعلم أن علينا كثيرا يجب أن يقدم لكبار السن، سواء كأسر أو مجتمع، فقد يكونون بحاجة إلى أندية، وإلى تكثيف جمعياتهم في كل منطقة على غرار جمعية «وقار»، أو بحاجة إلى تخصيص يوم وطني للتذكير بدورهم، وواجب المجتمع نحوهم، وأكثر ما أحزن له حينما أشاهد كبار السن وهم يقومون بمراجعة الدوائر الحكومية الخدمية، وكان الأجدر بتلك الخدمات أن تأتي إليهم.

الحديث قد يطول.. فاللهم أحسن لنا جميعا الخاتمة.