تحرر الجماعة واستقلالها يقتضي تحرر الفرد وانعتاقه، والفرد في سعيه نحو المعرفة يتحرر من كل القيود القديمة التي قد تعرقل مسعاه، وله الحق في أن يعبر عن رأيه، وينظم حياته الخاصة وفقاً لما يرتضيه.

ومشروع التنوير حين يقرر أن كل شيء يجب أن يخضع للمنطق، يقرر كما يقول هيوم إن الإنسان في الغالب عبد لهواه، ولهذا يجب إخضاع العواطف للمنطق، والإنسان بعامة ينقاد لأهوائه ورغباته وعواطفه ولقوى خارجية لا يمكنه أن يسيطر عليها، ولكن العقل يهديه إلى النجدين: الخير والشر.

والاستقلال مرغوب فيه، ولكنه لا يعني استغناء الذات عن الآخرين، والإنسان يولد ويموت ويعيش وسط الجماعة، ومن غير ذلك لا تتحقق إنسانيته، والنظرة التي يوجهها الآخر نحو الطفل هي التي تحقق وعيه، ونداء الآخر هو الذي يفتح له باب اللغة، والإحساس بالوجود الذي لا يستغني عنه أي إنسان لا يتأتى إلا من خلال التفاعل مع الآخرين، وكل كائن إنساني يكتشف أنه في حاجة إلى الآخر، وأن وجوده لا يكتمل إلا من خلال الارتباط بوجود الآخر، واعتراف الآخر بوجوده، وجان جاك روسو، هو أول من أطلق هذه الفكرة على أن الارتباط بالآخر لا يلغي وحدة الإنسان أو توحده.

ولكن في الوقت نفسه، فإن الحياة لا تصبح ذات جدوى إلا بالتنافس مع الآخر، ووجود الإنسان في المجتمع وانغماره فيه ليس مطلوبا على إطلاقه إذ قد يرغب الإنسان أحيانا في الانعتاق من المجتمع والحياة وحيدا في أحضان الطبيعة، وروسو يحذرنا دائما من الارتهان عند العرف والموضة، وهكذا قال الآباء أو فعلوا.

والإنسان حين يحيا تحت نظرة الآخر يسعى إلى تحقيق التفوق والشهرة والتميز أو ما نسميه أحيانا بإثبات الوجود، ومن هنا تتأتى أيضا حاجته إلى الآخر واعتراف الآخر به.

على أن أفكار روسو هذه لقيت معارضة من مفكرين آخرين، وعلى رأسهم المركيز دي ساد، ومن بعده بلا نشو وباتايBlanchot ey Bataille اللذان سارا على نهجه، ودي ساد ينادي بأن الفرادة هي أساس الوجود، وأن الإنسان خلق وحيدا، وأن العدو هو الآخر، وأننا دائما في حرب مع الآخر، ومن هذه الفكرة ينطلق دي ساد ليقول إن على الإنسان أن يسعى للاكتفاء بذاته.

ولكن كيف نستطيع أن نسلم بهذه الأفكار السادية التي لا تتعارض مع مشروع التنوير فحسب بل مع المنطق الجمعي، وهل يمكن وجود طفل بدون أمه وأبيه أو بمن يتبناه؟ والطفل المهجور دون رعاية مصيره الموت، وحاجة الطفل إلى الرعاية هي المبدأ الذي ينهض عليه التراحم.

* 2008