في عام 1945 إبان الاستعمار الإنجليزي، شهدت دولة السودان الشقيقة، إصدار أول رخصة قيادة سيارة للسيدة آمنة عطية التي تعد من النساء الرائدات في حقوق المرأة في السودان.

وقد ناضلت هذه السيدة لتحقيق حلم بنات جنسها في التعليم بعد أن أسست أول مدرسة ابتدائية لتعليم البنات عام 1957.

مرت قضيتا قيادة المرأة وتعليم المرأة في السودان دون تعقيدات ودون أن تتحولا إلى قضيتي رأي عام أو تستغلا سياسيا لمزايدات رخيصة، فقضية مثل قيادة المرأة لم تأخذ أكبر من حجمها الطبيعي في المجتمع السوداني، ومرت مرور الكرام دون مناكفات إعلامية وحرب تيارات فكرية وسجالات فقهية.

قيادة المرأة في السودان كانت مبكرة جدا، لأنها ببساطة قضية لا تستحق أن تكون قضية رأي عام أو تقام من أجلها مناظرة فقهية وتصبح شعارا اجتماعيا يستوجب النضال من أجله. فمثل هذه القضايا البسيطة عندما تتحول إلى ساحة للحروب الفكرية وتصفية الحسابات بين التيارات فإنها تتحول إلى معتقد، وحين تتحول إلى معتقد فإنه من العسير جدا تحويل هذا المعتقد أو كسره. وأي محاولة لتغيير هذا المعتقد ستكون موضع شكوك وريبة، وموضع أخذ ورد. وكلما تأخر اتخاذ القرار بشأن القضية فإن هذا المعتقد سيترسخ بشكل أعمق حتى يستحيل تغييره، مع أن القضية في أساسها بسيطة.

من المؤسف أن تكون هذه القضية البسيطة ذات يوم هي أم القضايا، وموضعا للحيرة الفقهية التي تستوجب حشد الأدلة الدامغة من أجلها، وتستدعي حشد الأصوات المؤيدة والمواقف المساندة حتى غدت مرتعا للاصطفاف بين المتشاحنين، وورقة ضغط تستغل ضدنا في المحافل الدولية، فلا أحد يشكك في أن قضية قيادة المرأة كانت تسبب لنا الحرج في سالف الأيام، فقد علقنا هذا الملف طويلا، ونحن آخر دولة في العالم تسمح للمرأة بقيادة السيارة، بسبب مسألة فقهية بسيطة لم نستطع أن نضع لها حلولا سريعة حتى لا تتحول لمعتقد راسخ مع مرور الوقت، ونضطر معه أن نهيئ المجتمع له وكأنه مقبل على حرب.

وبما أن المجتمع السعودي مقدم على تحولات اجتماعية تتطلبها روح العصر الحديث الذي يتبدل ويتغير بشكل متسارع لا يهدأ، فهل نشاطنا الفقهي وثقافتنا في مجال التشريع على قدر المسؤولية؟ هل نشاطنا الفقهي يستطيع مواكبة العصر وتبدلاته السريعة، وهل يملك الثقافة الواسعة التي تجعله يستوعب كل المستجدات، ويستطيع أن يستنبط الأحكام بناء على المصلحة دون يتسبب بإحراج المجتمع وأفراده أو أن يضيق عليهم في حياتهم اليومية؟.

دعونا نعود للوراء قليلا، للعصر العباسي على وجه التحديد، الذي شهد تحولات اجتماعية كبرى ومعه تأسس علم أصول الفقه، بصفته علم له مناهجه وضوابطه وتفريعاته.

كان الفقيه في ذاك العصر يملك ثقافة موسوعية ضخمة لا تتوقف عند مسائل الشريعة وحسب، بل تتجاوزها لتخصصات أخرى تكاد تكون بعيدة كل البعد عن مجال الشريعة من أول نظرة. ودعونا نطرح اسم الخوارزمي بصفته عالم رياضي شهير وفقيه يعود له الفضل في تأسيس علم هام جدا يعرف بعلم الجبر، الذي كان تأسيسه أولا وأخيرا لحل قضايا فقهية تتعلق بالمواريث والوصايا، ومن أجل درء الخلاف والتفرق في هذه المسائل قدم الفقهاء آنذاك - وعلى رأسهم الخوارزمي الفقيه - علم الجبر ليكون وسيلة لحل القضايا المستجدة في المجتمع.

كان الخلاف في القضايا الحياتية البسيطة شبه معدوم، والإجماع في المسائل اليومية البسيطة يكاد يكون تحصيل حاصل، فالفقهاء في ذاك العصر كانوا يملكون الفهم والاستيعاب العميق للشريعة والثقافة العلمية والأدبية الهائلة، التي جعلت النشاط الفقهي يؤسس علومه من أجل سيادة صورة فعالة للشريعة، تركز على العمل والممارسة أكثر من الجدل والتجريد واللجاج الذي سيؤدي إلى التفرق والبغضاء بين أفراد المجتمع.

سعى الفقهاء بما يملكونه من مخزون معرفي كبير لصناعة مشروع حضاري كبير يؤسس لنظرية تقوم بتحويل العقيدة والشريعة إلى ممارسة وعمل من خلال تقنين أحكام الفقه وأصوله، ومن خلالها يتم تحديد الشروط المقيدة لإنتاج الحكم الفقهي، حتى يظل الإسلام كشريعة حاضراً على الدوام في السياق الاجتماعي للمسلمين.

ولا شك أن الخلاف وارد في كل مكان وزمان، لذلك لا بد أن نطرح مثالا لأشهر قضية خلافية في العصر العباسي وهي قضية «خلق القرآن» فهذه القضية مثلت قضية الرأي العام في ذاك الوقت، وهي ليست من القضايا التافهة والبسيطة، فهي تناقش مسائل فلسفية ووجودية كبرى، تنزع إلى التجريد وذات طابع جدلي عقلي ومنطقي خالص. فالرفض الصارم لعلم الكلام والخلاف مع المتكلمين يرجع إلى رغبة الفقهاء في سيادة صورة فعالة للعقيدة الإسلامية تركز على العمل والممارسة أكثر من التجريد والجدل والخوض في مسائل غيبية تتجاوز حدود العقل وقدرته. فعلم الكلام أسهم في تحويل العقيدة الإسلامية البسيطة إلى عقيدة فلسفية تميل نحو التجريد، وهذا ما يجعلنا نؤكد بأن الخلاف لم يكن حول قضايا مجتمعية بسيطة بقدر ما كان خلافا نخبويا يناقش قضايا الوجود الكبرى.