والتنويريون حين ينادون باستقلال الفرد وانعتاقه لا يتصورون أن ذلك يعني دخوله في صراع مع الآخر، بل إن سلطة الجماعة تنطلق من حرية الفرد، أي أن الجماعة تتكون من أناس أحرار، وليس من أشخاص خاضعين، على أن سلطة الجماعة بدورها يجب ألا تكبت حرية الفرد وتئدها، ولا سيما عن طريق التلقين المتبع في طريقة التعليم في كثير من الأقطار، والتلقين وخصوصا لدى الأطفال يكوّن أفرادا ذوي أحكام مسبقة.

وثمة وسائل عدة تلجأ إليها الجماعة لكبت حرية الفرد، أولها بالطبع المدرسة حين ينهض التعليم فيها على التلقين والحفظ، ولا سيما إذا كان تلقينا يتأسس على إيديولوجيات وأفكار جاهزة دون أن تتاح للطالب حرية النقد والإبداع، وهدف التعليم لا ينبغي أن يقدم للناس نظاما وقوانين يتبعونها ويسلمون بها ولكن لينقدوها ويصححوها.

والتلقين والحفظ لا يقتصران على التعليم بل تلجأ إليهما النظم الشمولية لغسل دماغ الجماهير وتطويعها وقولبتها، وهناك بالطبع الإعلام بجميع وسائله، خصوصا وقد ثبت أن الأكاذيب حين تردد مراراً وتكرارا ترقى إلى مرتبة الحقائق التي تعجز الفرد عن تنفيذها ودحضها، ولا سيما حين تسيطر النظم الشمولية أو مؤسسات الميديا العملاقة على كل وسائل الإعلام صحفا وتليفونياً.

والأمر لا يقتصر في تطويع الجماهير على الأنظمة بل نشأ نظام جديد أشد بأسا ونفوذا منها، نظام يفرض ثقافة واحدة هي العولمة، والعولمة أسلحة فتاكة لا قبل لأعتى الجيوش على صدها، وهي تحديدا الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك العلمية التي تستطيع بضغطة على الكمبيوتر لا تستغرق ثواني أن تدمر اقتصاد أي دولة، وهو ما حدث لدول جنوب شرق آسيا قبل سنين.

بل أحيانا كما حدث مع المضارب العالمي جورج سورس يستطيع فرد واحد أو أفراد معدودون أن يدمروا عملة بلد واحد، بكلمات أخرى، فإن الحكومات لم تعد تسيطر على اقتصادها كأن تحارب البطالة وتغير سعر الفائدة.

وهناك أيضا قوى جديدة تعمل على فرض رؤية معينة للحياة ليس على الفرد فحسب بل على الجماعة، بل حتى على الحكومات، وهي الجماعات المتطرفة التي تمتلك سلاح الإقصاء وفي النهاية الإرهاب، الذي أصبحت لديه أسلحة فتاكة كالاغتيال والتفجير عن بعد، بل إن هذه الأسلحة أصبحت سهلة الحمل والنقل من مكان إلى آخر نظراً إلى قلة حجمها ووزنها.

* 2008