ذكرت في كتابي «الجوائز الأدبية؛ الحدود والأقنعة» (أبها: 1420=1999) أن أول جائزة أدبية في المملكة هي «جائزة الشربتلي»، وأن تاريخها يرقى إلى عام 1368=1948، وأن الأديب أحمد السباعي تقدم إلى الجائزة بروايته «فكرة» (1368)، ورأت لجنة الجائزة أنها استكملت الشروط التي اشترطتها في العمل الأدبي الممنوح، واستحق الظفر بها. ولم أشأ أن أتبسط في الكلام، وأسهب في التفاصيل، فوق ما ذكرته، في ذلك التاريخ، لكن تأريخ «جائزة الشربتلي»، ألصق بنشأة الأدب والثقافة في بلادنا، ويستحق مزيدا من البسط والإسهاب؛ فهذا الضرب من الكتابة - وإن اعتنى بالتأريخ والتوثيق - لكالعلامات والصوى، يهدينا إلى مسائل في تاريخنا الأدبي والثقافي، ويقف بنا على مولد «المؤسسة الثقافية»، مهما كانت ساذجة يسيرة.

نقرأ في الصفحة الثانية عشرة بعد المئة من مجلة «المنهل» (ربيع الأول 1366= فبراير 1947)، خبرا مطولا، يشبه ما يسمى في صناعة الصحافة «إعلانا تحريريا»، محاطا بإطار غايته تمييزه من سواه، يعلوه عنوان صغير: «مفاجأتنا السارة»، وأسفل منه عنوان يتوسط الصفحة، خط بحرف كبير: «جائزة الشربتلي»، ونفهم من الخبر المطول أن «حضرة السيد حسن شربتلي» أمضى وثيقة تتضمن موافقته على إنشاء جائزة سنوية أدبية باسم «جائزة الشربتلي»، وأن هذه الجائزة تقدم إلى إدارة «المنهل»، لتتولى تقديمها «لأحسن مؤلف أو كاتب أو شاعر» يكتب أحسن مؤلف ثقافي، سواء أكان نثرا أو نظما، بحثا أو قصة، واشترطت «الجائزة» ألا يقل العمل الأدبي عن خمس وعشرين صفحة من صفحات «المنهل»، وأن آخر موعد لقبوله هو غرة رجب من هذا العام [1366!]، ومن كل عام، وأوضح الخبر أن «الجائزة» تمنح بقرار من «لجنة ثلاثية» من المثقفين، يرأسها صاحب «المنهل»، وتختار برأيه! وفي الخبر أن مقدار هذه «الجائزة الوطنية السنوية» هو «خمس مئة ريال عربي»، تقسم بين الثلاثة الفائزين؛ فللأول مئتان وخمسون ريالا عربيا، وللثاني مئة وخمسون ريالا، وللثالث مئة ريال، على أن يطبع «المنهل» العمل الفائز، «على نفقته ولحسابه، أو في أعداده، تباعا، إذا شاء، ولا حق لغيره في ذلك».

لقب السيد حسن عباس شربتلي بـ«المحسن الكبير»، وكان هذا لقبه الرسمي، وتجلو لنا سيرته وحياته نبأ تاجر كبير، اقترن اسمه بأعمال البر، لكن الرجل الذي صار، عند العامة، مضرب المثل في الثراء، عرفه الحكام، وأهل السياسة، والمثقفون، فلولا هذا «الأمي» الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ما عرف المثقفون كبار المعاجم والقواميس، وما اتصل القراء بجمهرة من عيون التراث العربي القديم، كان سخيا جوادا كريما، ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، على أننا نستطيع أن نسوق اسمه هو وطائفة من أعيان ذلك الزمان، لندل على ما لهم من سابقة في ترقي المجتمع ونهوضه، وما الثقافة والجوائز الأدبية إلا وجه من تلك الوجوه.

مر العام 1366، ومضى، من بعده، العام 1367، ولا أثر يذكر للجائزة، فلما كان العام 1368، قرأنا في عدد صفر، وديسمبر 1948، في باب «البريد الأدبي» من مجلة «المنهل» (ص 85-87) = خبرا عنوانه: «جائزة الشربتلي لعام 1367»، أعيد فيه أن المحسن الوطني السيد حسن الشربتلي وقع وثيقة تتضمن تقرير «جائزة سنوية باسم جائزة الشربتلي وقدرها 500 ريال عربي»... إلخ. والجديد في الخبر أن الأديب أحمد السباعي تقدم بقصته «فكرة» إلى اللجنة «التي ألفت من صاحب المنهل [عبدالقدوس الأنصاري] ومن الأستاذين محمد سعيد العامودي وعبدالله عبدالجبار»، وأن هذه اللجنة الثلاثية نظرت في القصة، ودرستها، واتخذت قرارا نشرته «المنهل»، عقب خبر إعلان المنح، باستحقاق قصة «فكرة» للجائزة لعام 1367، وأن صاحب «المنهل» بعث التقرير الموقع من اللجنة إلى المتبرع الكريم – يعني السيد حسن شربتلي – «ليرسل قيمة الجائزة لإدارة المنهل فتبعث بها إلى المؤلف السباعي»، وختم الخبر برجاء إلى الأثرياء بأن يتأسوا براعي الجائزة!

فإذا انتهى «خبر المنح»، قرأنا «نص القرار» الذي سوغت فيه اللجنة استحقاق أحمد السباعي، وقصته «فكرة» للجائزة. لم يخل التقرير من مؤاخذة الكاتب على ما في عمله من «تطبيعات»، و«أخطاء لغوية»، و«هنات فنية»، على أن هذه القصة استحقت الجائزة لأسباب ثلاثة؛ أولها: أنها «قصة عربية، بها كثير من السمات الوطنية والطبيعية والاجتماعية، وهذه السمات التي رسمها الأستاذ المؤلف، تدل على أصالته الأدبية، وتعتبر خطوة إلى الأمام في سبيل تطوير الأدب في البلاد»، وثانيها: «متانة تعبيرها وجزالة تركيبها وإشراق ديباجتها»، وأورد «نص القرار» مثالا على ذلك من القصة نفسها؛ وثالثها: أنها «قصة اجتماعية تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي وإصلاح أساليب التربية والتعليم، والقصة مملوءة بالآراء القيمة والأفكار السديدة»، وتسوق اللجنة، أيضا، أمثلة على ذلك، ثم تلخص قرارها بـ«خلاصة» جاء فيها: «إن قصة (فكرة) لما أشرنا إليه من الأسباب مما أوردنا بعض الأمثلة عليه = تستحق جائزة السيد الشربتلي لعام 1367، والسيد حسن الشربتلي يشكر على عنايته بالأدب، وتشجيعه للأدباء على الكتابة والتأليف، ويسرنا أن نسجل هنا هذه المأثرة له مقرونة بأعطر الثناء. في 5 /2 /1368.

محمد سعيد العامودي - عبدالله عبدالجبار - عبد القدوس الأنصاري

فلما كان عدد جمادى الآخرة سنة 1368=أبريل 1949، قرأنا في الصفحة السادسة والستين بعد المئتين من مجلة «المنهل» خبرا عن «جائزة الشربتلي الأدبية»، أعاد تذكيرنا براعيها، وقيمتها، وقرار اللجنة الثلاثية بالمنح، وأن هذه اللجنة قدمت تقريرها إلى المتبرع بالجائزة، وأنه «تفضل فبعث بالمبلغ إلى صاحب المنهل»، ليسلمه إلى مستحقه بموجب «محضر» نشرته المجلة! وفي «المحضر» يقر الأديب أحمد السباعي أنه تسلم قيمة الجائزة، وهي خمسمئة ريال عربي، بالوفاء والتمام، وفي آخر المحضر، نقرأ اسم أحمد السباعي، واسم صاحب المنهل، وشاهدين؛ هما هاشم نحاس ومحمد سعيد العامودي!

ويختتم الخبر بشكر راعي الجائزة والثناء عليه، ويهيب بالأثرياء إلى تشجيع الثقافة والأدب، وبالأدباء إلى إنعاش حركة التأليف والإنتاج.