أثارت هذه القصيدة في نفسي كثيرا من الأسئلة والتساؤلات التي أرّقتني حتى صباح اليوم التالي. أيامها كان مُدرّسنا للأدب العربي شيخا أزهريّا حاصلا على العالمية، اسمه عبدالرحمن عثمان، وكان أنيق المظهر والمدخل، ومن أعلم الناس الذين قابلتهم في حياتي بالشعر العربي، خاصة الجاهلي. وهو الذي حبب إليّ هذا الشعر الأخير حبا تنامى وتطاول مع مرور الأيام والسنين، وأسفر بعد خمسين عاما عن كتابي «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة».

والرجل -أعني عثمان- كان مُلمّا على أزهريته باللغة الفرنسية وآدابها، ومنه سمعت للمرة الأولى في حياتي عن السريالية، التيار الأدبي الذي كان سائدا في فرنسا قبيل الحرب العالمية الثانية. درست على هذا الرجل عامين، عاد بعدها إلى القاهرة، ثم ذهب إلى باريس وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب من السوربون، وانقطعت أخباره عني، ثم علمت أن الموت عاجله وهو في قمة عنفوانه وعطائه.

ومع الأسى، بحثت له عن نتاج منشور فلم أعثر على شيء منه، وأسعدني أنني قابلت كثيرا من الذين عرفوه وتأثروا به، وكان له أثر في حياتهم، ومنهم الشاعر الصديق أحمد عبدالمعطي حجازي.

المهم، ولعلّه الأهم، قابلت الرجل في اليوم التالي لإلقاء القصيدة، سألته عن الوعي البليد، قال: إنه فقدان الإحساس، بماذا؟ قال: الإحساس بالجمال، أضاف «ولكن أين أنتم من الجمال؟، لا جمال لديكم، فالطبيعة جرداء، لا ماء، ولا شجر. وإذا كان الجمال في وجهه الآخر المضيء هو الفن، فلا فنّ لديكم، إذ إن الرسم حرام، والموسيقى محرمة، والرواية عمل من رجس الشيطان»، وكان الأمر أيامها -حقا- كذلك، ومن كل ذلك كان الوعي البليد، وضلالنا عن الحق الصراح.

لم أستوعب هذه الحقيقة في ذلك الوقت، إلى أن خفق القلب -للمرة الأولى- وشرعت في رحلة البحث عن الجمال، أو على الأصح عن حساسية جديدة، وأن يخفق القلب ويتعذب فيما بعد، هو أول الطريق إلى هذه الحساسية، ولم أدرك إبانها أنها ستفضي إلى الجنون والمنفى، على أنني اكتشفت الحق الصراح حين أحسست بالجمال، والأمر هنا لا يتعلق بالخير والشر، إذ إن هذه ظاهرة ميتافيزيقية محضة، وليس لها أي صلة بما يحدث في الحياة نفسها، وما يسمى بالأخلاق ليس إلا مجموعة من القيم اصطلاحية المجازية التي يتظاهر الكل بالتمسك بها واتباعها، وتحول ظروف الواقع المادي وصروفه بينهم وبين تطبيقها، ولكن ما الواقع أو حقيقة الحقيقة؟ إنه السلطة.

والسلطة شيء لا يمكن تعريفه أو وضع الأصبع عليه، إنها مجموعة من العلاقات، بين القوى المسيطرة في المجتمع، والتي تفضي إلى خطاب لغوي متسيّد، هو القوانين التي تشكل الواقع وتفرضه، وهي قوانين لا بد أن تتعارض في النهاية مع ما يسمى بالأخلاق أو الحق الصراح، وليس هناك في الحقيقة ما يمكن أن يسمى بأصحاب السلطة، إذ إن هؤلاء محكومون حتما بقوانين السلطة مثلهم في ذلك مثل الإنسان العادي، ومن هنا تأتت مأساة ماكبث وزوجته، لقد حسبوا أن الأمر بيدهم، واكتشفوا أنهم ضحية لقوى السلطة وقوانينها، أي لخطاب لغوي متسيّد.

* 2008