تعامل المفسرون في العصور السابقة مع النص القرآني بصفته نصا مقدسا لا ينتمي لعصر محدد أو ثقافة معينة أو جيل بعينه ينتهي بانتهائه، فقد كانوا يعتقدون أن النص القرآني لكل زمان ومكان، وأنه موجه لكل شعوب العالم بمختلف ثقافاتها، لذلك كان النص القرآني هو عماد الحضارة الإسلامية، وهو الأساس لكل نتاجهم العلمي، ومن خلاله تتفرع بقية التخصصات التي أعطوها اهتمامهم، فاشتغلوا على هذا النص من جميع جوانبه سواء من الجانب اللغوي أو الجانب البلاغي والإعجازي أو الجانب النحوي أو الجانب الأدبي أو الجانب الفقهي حتى على مستوى الجانب الكلامي الفلسفي والجمالي، فهذه الدراسات المتعددة الجوانب والمتعمقة في التحليل تعكس رغبة صريحة أن يكون فهم النص القرآني قائما على أسس علمية ومنهجية غير متروكة للتلقائية والعفوية.

إن التعمق الكبير في تحليل الخطاب القرآني نبعَ من هاجس كبير اتصفت به الحضارة الإسلامية منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو التوفيق بين اللفظ والمعنى، فقد كانوا يحملون على عواتقهم مسؤولية حضارية عنوانها (الفهم لمعاني القرآن فهما لا يخرج النصوص عن مقاصدها) ومن أجل تحقيق هذه الغاية كرسوا كل جهودهم لخلق ضوابط تحمي النص من عواقب تحميله ما لا يحتمل، ووضعوا نصب أعينهم ظاهرة التأويل الاعتباطي للنصوص في الحاضر والمستقبل، فهم بصدد تأسيس خطة إستراتيجية طويلة المدى هدفها الأساس أن يكون النص القرآني مفهوما في كل زمان ومكان وفي كل عصر ومع كل ثقافة وفكر دون أن يخرج عن غايته المرادة منه، ودون أن يتعرض لتأويلات باطلة تخرجه عن مقاصده.

وتحقيق هذه الغاية ليس من السهولة بمكان، فأول تحدٍ يواجهونه الحفاظ على اللغة العربية، الوعاء الفكري الذي سيحمل النصوص القرآنية في كل العصور اللاحقة، فاللغة التي تحوي أحكام التشريع أصولا وفروعا لا تقل أهمية وخطورة، فكل تأويل وتفسير خاضع للتوظيف اللغوي، فضلاً عن كون اللغة أساسا في العملية الاستنباطية ووسيلة إلى الفهم والبيان، فكانت قواعد اللغة التي ستكون أساسا يعتمده كل مفسر للقرآن الكريم، فهي تمثل الجوهر في كل عمليات التفسير والتأويل.

ولا أحد ينكر بأن اللغويين ويقف على رأسهم سيبويه قد اشتغلوا بنجاح منقطع النظير بسبب تعاملهم الواقعي مع الخطاب القرآني، وسيبويه حينما أسس لمشروعه اللغوي الشهير فإنه لم يتعامل مع الظاهرة اللغوية بمعزل عن التفسير لنصوص القرآن، فكان مشروعه يصب في خدمة النص القرآني في نهاية المطاف، ولم يزل مشروعه اللغوي قائما حتى وقتنا الراهن، يستفيد منه المسلمون وغيرهم، وهذا يثبت أن الخطة الإستراتيجية التي وضعها العلماء بشتى تخصصاتهم في ذاك العصر، ناجحة ولا زالت تحقق النجاحات.

إن الفكر الإسلامي المرتبط بالوحي الإلهي ارتباطا مباشرا، فكر غني لا بحجمه وعدد مؤلفاته ومتونه ولا بمساحته الزمنية الممتدة، ولكن بنوعية القضايا التي عالجها ومقدار حساسيتها، فهي تمثل مسؤوليات حضارية ثقيلة وقعت على عاتق هذا الفكر ومن يمثلونه. وما قدموه من حلول ومقترحات في خدمة الخطاب القرآني مع تواضع الإمكانيات وقلة المصادر - في ذاك العصر - أشبه بالمعجزة التي لها طابع الامتداد مع الزمن بسبب تعلقها بالوحي المعجز باستمرار.

إن ثراء النص القرآني وما يملكه هذا النص من قوة إيحاء وتعبير، وما ينطوي عليه من أسرار وجوانب بلاغية وجمالية، يتطلب فكرا يرتقي لمستوى هذا النص، فكرا يستطيع أن يتعامل مع معجزة بيانية بحجم القرآن الكريم، فكرا مستوعبا لكل شروط التفسير وقواعد الاستنباط، فكرا قادرا على تنزيل أحكام الشريعة المستنبطة من النص القرآني على واقع المجتمع، ومراعيا قضايا العصر ومشكلات الناس المتجددة.