قد يرتبك القارئ العزيز من استخدام مفردة «العقيدة» في هذا المقال، كمعنى اعتاد على إسقاطاته الشرعية، متجاهلا الأصل والجذر اللغوي لكلمة عقيدة من: «عقد القلب على الشيء واطمئنانه به»، وهل هناك ما ينعقد له قلب الإنسان ويطمئن إليه أكثر من الوطن. ومن لا يعرف عقيدة الوطن وأثرها في القلوب، فلن يعذر الموريسكيين أبدا على تقلبات حياتهم الروحية في سبيل وطنهم الأندلس، حتى ولو صارت إسبانيا، وصاروا مسيحيين.

فالعقيدة السياسية للمواطن السعودي يجب أن تنطلق من منطلقات مدنية، تتجاوز المفاهيم الحمقاء التي تُخرج لنا أوهام الخلافة «الشرعية» في «عبدالله المهدي» قبل أربعين عاما في ساحة الحرم المكي، أو تخرج لنا «البغدادي» في ساحة بلاد الرافدين، لتتحول بلاد العرب إلى خراب تتنازعه العمائم السود والبيض، بين «خامئني وبغدادي»، وكل هذا عائد إلى مفاهيم قروسطية لا تقوم عليها الدول الحديثة.

من يتنقل بين مناطق متعددة في المملكة العربية السعودية، يجد أن هناك عقيدة واحدة يحملها «السعودي» من أقصى حيّ في محافظة القطيف على الساحل الشرقي، إلى أقصى حيّ في محافظة جدة على الساحل الغربي. عقيدة واحدة تجمعهما مع كل «سعودي» في أقصى منطقة الجوف شمالا إلى أقصى نقطة في منطقة نجران جنوبا. إنها عقيدة لا يفهمها أبدا أبدا سوى من يدرك المعنى السامي الذي تحمله كلمة «مواطن» في دولة حديثة، وأقصد بها «عقيدة التنمية».

«عقيدة التنمية» التي يتفق عليها ويفهمها كل «مواطن»، ويرجو انتشارها في كل شبر من أرجاء الوطن، لا فرق فيها بين سهول وجبال، ولا صحارى وسواحل، لأن «عقيدة التنمية» هي دليل «المواطن الحقيقي» في عمله العام أو الخاص، وهذه العقيدة الوطنية هي هدف كل أسرة سعودية. فتراها تتجاوز مفاهيمها التقليدية في سبيل حصول ابنها على تعليم راقٍ في أفضل الجامعات الغربية، ليجد الشاب السعودي نفسه وحيدا إلا من أوراق وطنه التي أعطته القبول في أفضل الجامعات، فإما يعود حاملا «عقيدة التنمية» ليشارك في ازدهار وطنه، وإما يصبح حاملا «عقيدة الشتات» بين أوهام الأنا المتضخمة، وأوهام المؤامرة ليعيش العمى الأيديولوجي باسم الدين أو باسم العروبة.

«عقيدة التنمية» هي التي نشرت الطرق والمدارس في كل المحافظات والقرى، على اختلاف مذاهبها وطوائفها وأعراقها على خارطة هذا الوطن العريق.

«عقيدة التنمية» هي التي وحّدت رجال القوات المسلحة صفّا واحدا -على اختلاف مذاهبهم وثقافاتهم- باتجاه حماية حدهم الجنوبي، ضد أفّاقين يدّعون شرعية إمامية ترى في نفسها ما يستنكره صحيح العقل، ويؤيّده في هذا النكير صريح القرآن في قوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، كحالة فردية خاصة بالفرد بينه وبين الله، ولا يمكن تحويلها إلى حالة جماعية إلا بصناعة «النفاق الاجتماعي» تحت إكراهات ليس لها من الدين إلا الاسم.

وصدق الله العظيم في: «لا إكراه في الدين»، هذه الـ(لا) التي جمعت بين الدلالة «الناهية» والدلالة «النافية» لأولي الألباب، فكيف أدخلها البعض شرطا في سياسة الشعوب وازدهارها.

«عقيدة التنمية» هي التي تجاوزت بنا قنطرة أولئك الذين وقفوا ضد إنشاء الإذاعة والتلفاز، وتعليم البنات ودخول السيارات، وآخرها قيادة المرأة لسيارتها.

«عقيدة التنمية» هي ما يجمع عضو البرلمان في مجلس الشورى مع زميله في المجلس باتجاه ازدهار هذا البلد، رغم اختلافهما في المذهب والقبيلة واللون.

«عقيدة التنمية» من لا يعرف مدلولها «المدني» في العصر الحديث، فسيصبح عدوّا لها كرد فعل طبيعي لقاعدة «الإنسان عدو ما يجهل».

أما المؤمنون بعقيدة التنمية إذا كثروا في بلدٍ من البلدان، ازدهر وشارك في سباق الحضارة. وإذا نضبت الأوطان منهم فقد ترى فيها ما تراه في العراق وليبيا واليمن وسورية، من احتراب باسم الدين والعرق والقبيلة.

«عقيدة التنمية» تشبه بشكل ما عقيدة الطبيب المخلص في حرصه على شفاء مرضاه، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأعراقهم. فيقدم لهم بقلب صادق وعقل حاذق العلاج اللازم لتزدهر حياتهم الصحية. إنها عقيدة حرة كريمة تحرص على مقدرات الوطن كجزء من منزلها الخاص، سواء كانت في مرفق عام بشمال وطنها أو جنوبه.

إنها عقيدة تشعر بمسؤوليتها الوطنية باقتدار يتجاوز مفاهيم الطائفة والمذهب والقبيلة.

من حق العقلاء أن يعترفوا بعقيدتهم السياسية التي تخصّ وطنهم المملكة العربية السعودية أنها «عقيدة التنمية»، وعلى كل مثقف سعودي في الداخل والخارج سُنّياً كان أو شيعياً، أشعرياً كان أو سلفياً، إثني عشريّا أو إسماعيليّا، أن يدافع عن هذه العقيدة الوطنية. فما صنعته السعودية في عقود قليلة في تنمية البنية التحتية يتجاوز ما عاشته دول سابقة لها في مضمار التمدن، وبقي علينا إكمال المسيرة مزاوجين بين التنمية الطبيعية والتنمية البشرية، وصولا إلى ما نراه من محاولة الدخول في مفاهيم أكثر حداثة وعمقا، كمفهومي «التنمية الشاملة» و«التنمية المستدامة».

«عقيدة التنمية» تعني الحرص الصادق على مقدرات الوطن الطبيعية والبشرية. هدفها الوحيد والدائم هو الحفاظ على الاستقرار الإنساني والتقدم المجتمعي، ليست مشغولة بمنافع المنصب والكرسي، بل مشغولة بازدهار شعبها ورفعة راية وطنها في كل المحافل الدولية، كرمز للنماء والازدهار والإنسانية.

وأخيرا، «عقيدة التنمية» ليست حبرا على ورق كما هي في هذا المقال العابر، بقدر ما هي صبر على سوء الظن من مواطنين معبئين بمغالطاتٍ تلبس ثوب التَّزمُّت الديني حينا، وثوب التزمت الحداثي حينا آخر، والفيصل لمن آتاه الله قلبا مخلصا وعقلا واعيا، ورغبة حقيقية وصادقة في خدمة الشعب والوطن.