كلما خلعت قمصاني البيضاء، واتّشحت بلباس أجدادي الملونة، تنتابني مشاعر اهتزاز الأشجار من الرياح. مشاعر الطبيعة الأولى التي خُلقنا منها «الطين والماء».

يقولون إنني شبيه أبي الذي كانت سمات ملامحه أيقونةً في بطاقة هويته.

وجهٌ حنطيٌ، كان وجهه مشتقا من حنطة الذرة. عاش والدي فلاحا، وكان منذ الفجر محدودب الظهر على أرضه بمنجله وبمسحاة فاروعٍ. متقوّسا على الأرض حتى اصطبغ لهب الطين مرة أخرى بلحمه ووجهه وملامحه.

أخذتنا الحياة عن الأرض، هجرنا الطين الذي لم نعد نشعر به إلا حين يَخِزُ دواخلنا. ارتفعنا بالأحذية حتى جفت حواف أقدامنا وتشققت. فُرِشَ الإسفلتُ وتمدنتِ القريةُ حتى أصبحت تلامس أطرافا أخرى. اقتلعنا أشجار العنبرود والردائم خارج باحات البيوت، ورصصنا المساحات بالبلاط الناعم.

تحاول الهرب من التمدن البصري المزعج، في اللغة والمعنى والطريق والنوم وأوراق العمل وساعات التأخر، حتى الهرب من أطباق الفول البلاستيكية البيضاء. لهُو هروب فاشل وغير مُجدٍ. أن تهرب وجذورك تتأصل في الأرض بأسرةٍ وأطفالٍ وأخوةٍ وأمٍ وأبٍ مدفونٍ في قريةٍ أقصى أقصى الجنوب. تبدو كأنك تمد يديك إلى ما بعد الكرة الأرضية فلا تصل إلى شيء.

كل يوم أنظر إلى وجهي الذي يأخذ شكل المُثلث المقلوب، المُطوق بالأزاهير، والذي أخذته من ملامح جدي غصبا بالجينات التي كان يكفر بها. جالسا بهذا الشكل البدائي الذي كان يجلسه صيادون أفارقة قبل تقسيم العالم إلى حدود وبلاد. مُسْتويا على صخرةٍ أنشقت من قمة جبل واستقلّت بهذا الشكل الملامس للأرض، واهبةً بطنها للكائنات باختلافها وليس للمطر وحسب.

هنا تصدعٌ جبليٌ مُخلفاً وراءه وادي «لجب»، ممتداً بالشكل الطولي وبارتفاع سماءٍ واحدة. صعدت إلى ارتفاع بسيط من الطرف الشرقي مُحدقاً في الأشجار التي تعتلي قمم الجبال، راكزةً جذوعها بين الصخور بقوةٍ وصلابةٍ، رافضة القوانين البيئية الصعبة. تمد جذورها عبر الهواء بمسافات تتجاوز مئات الأمتار إلى الأسفل حتى تصل إلى الطين مرةً أخرى. أتتبع حوافر القرود في طبقات البازلت والجرانيت على صدور الجبال، تاركةً آثاراً كخلايا النحل من ناحية، وحفر الكلاب من ناحية أخرى. القرود التي سلبت منا ما تركناه على مساند الجلوس، بينما نحن ملتفين حول بعضنا نتناول الغداء.

رائحة العسل تجوب الوادي، لكن أين النحل يا أصدقاء؟! لا نحل هنا. ولكن أريج الأشجار بالوادي اختلط بالهواء حتى وخزت أنوفنا رائحةٌ مماثلةٌ لشمعِ العسل.

أما خرير الماء الملامس للهواء يستمر بانسياب مُتعرج، لا انقطاع لصوت خطوات الماء على منحدرات الصخور المتناثرة على مرمى الوادي، عاكسةً أشعة الشمس فوقها كفستان أبيض لطفل في عامها الأول وعيدها الأول.

كدت أغيب عن الوعي، وكان الماء مستمرا بصوت خريره على الصخور، وكنت أنا الوحيد الذي يمسد جذع شجرة بجانبه.