في صراع الكبار لا مسار غير المفاوضات والاتفاقات؛ لأن المسارات الأخرى باهظة التكاليف حد اللاقدرة على الاحتمال، وحينما تملك قطعاً تكافئ في الأهمية والتأثير القطع التي يمتلكها خصمك حينها يكون الوصول إلى نقطة التعادل على الرقعة أمراً مقبولاً للجميع. وصلت الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية ذروة اشتعالها في مايو المنصرم، وفيها استخدمت الولايات المتحدة الأميركية أهم أسلحتها في هذه الحرب (تكنولوجيا المعلومات والتعرفة الجمركية)، والمتأمل جيداً في قرارات الإدارة الأميركية هذه يدرك جيداً أنها قرارات اتخذت وفق دراسة محكمة من وجهة النظر الأميركية، وليس كما روجت الكثير من الماكينات الإعلامية بأنها مجرد نزوات ترامبية غير محسوبة. باختصار اتخذ هذين القرارين تحديداً لأن الرد الصيني عليها سيكون: (المعاملة بالمثل)، وفي هذه الحالة لا مجال للمقارنة فما تصدره الصين للولايات المتحدة أكثر بكثير مما تستورده، وحاجة الولايات المتحدة للتكنولوجيا الصينية أقل بكثير من حاجة الصين للتكنولوجيا الأميركية، إضافة إلى إمكانية توفير بدائل للبضائع المستوردة من الصين فيما يصعب على الصين توفير بدائل للتكنولوجيا المصنعة أميركياً. بناءً على هذه المتراجحة اتخذ ترمب قراري التعرفة الجمركية، ومحاصرة هواوي، لكن (بناةُ السور) الجدد لم يسلكوا المسار المرسوم من قبل راسمي المسارات في البيت الأبيض، حيث لم تكن القرارات المتخذة في (بيجين) هي زيادة الجمارك على حبوب الصويا وطائرات البوينج فحسب، ولم تكن متطرفة كما توقع رفاق (كودلو)، فقد سلك أحفاد (ماو) طريقين يجعلنا أكثر إيماناً بأن مسار (الإصلاح والانفتاح) الذي تنتهجه الصين قد جعلها أكثر نضجاً في التعامل مع أفخاخ أرباب الدولار، تمثل الطريق الأول في التأكيد على أن الصين عضواً رئيسياً في صناعة وتطوير أنظمة التشغيل الرقمية التي تحاول الولايات المتحدة احتكارها، وبأن الصين ستواصل الاستفادة من هذه التكنولوجيا وفق الاتفاقيات الدولية الموقعة بهذا الشأن، وهذه خطوة تحرج الولايات المتحدة، إذ لا تستطيع في هذا التوقيت تحديداً التنصل من الاتفاقيات التي تضمها وكثير من صانعي ومطوري ومسوقي هذه التكنولوجيا، إضافة إلى أن اتخاذ موقف هكذا يتيح أمام الصينيين الوقت لإنتاج أنظمتهم التقنية غير الخاضعة للمزاج الأميركي، وفي ذات الإطار لم تتطرف الصين في الرد بل أكدت استمرارية تعاملها مع كافة الشركات والمؤسسات التي تصدر وتطور الأنظمة الرقمية بما فيها الشركات الأميركية خارج التراب الأميركي، والتي لا تشملها قرارات ترمب الأخيرة. فيما الطريق الثاني هو الاتجاه نحو فتح أسواق بديلة يمكنها أن تستوعب ما قد يفيض من الصادرات بسبب إغلاق السوق الأميركية، بدا هذا الأمر واضحاً من الرحلات المكوكية للإدارة الصينية إلى بلدان آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية إضافة إلى حزمة قرارات وقوانين اتخذت في الداخل الصيني لتشجيع فتح شركات التصدير والاستيراد من وإلى الصين. وأمام الرد الصيني الذكي والقوي تجد إدارة ترمب نفسها وقد استخدمت أهم أوراقها وأكثرها تأثيراً ونتيجتها أن الصين في طريقها لتوفير بدائلها الخاصة بما يفقد الأمريكيين أهم نقاط قوتهم في معاركهم الاقتصادية مع التنين. لذا تتجه الحكومتين خلال الفترة القليلة القادمة إلى توقيع اتفاق تاريخي يعيد التعرفة الجمركية إلى ما قبل 2019م، ويمكِّن شركات إنتاج الأجهزة الذكية في الصين من استخدام التكنولوجيا الأميركية في مقابل رفع قيمة اليوان الصيني أمام الدولار الأميركي لضمان بقاء البضائع الأميركية في مجال المنافسة السعرية مع السلع الصينية.