لا شك أن الأديان بطبيعتها، سواء أكانت سماوية أو وثنية، غالبا ما تصطدم وتتعارض مع رغبات وأهواء الإنسان وتلزمه بخلافها. فهي تخاطب الإنسان عادة بما يخالف هواه، وتلزمه ببذل المال والجهد والتضحية وتقديم القرابين، ومثل هذه السلوكيات تخالف ما يحبه الإنسان بفطرته من حب الراحة والتملك والاستزادة من المال. بل إن الشرائع السماوية غالبا ما تقف ضد مصالح الأشخاص الفردية وتطلعاتهم الدنيوية.

وهذا ما يعرض الأديان -عادة- لمختلف أشكال الابتداع والتغيير والتبدل من طور لآخر، فالديانة -أي ديانة- إذا كان مقياس التشريع فيها هو الإنسان وأهواؤه فإنها في الغالب ستخرج عن مقاصد الشارع، وتدخل بوابة الفوضى التأويلية والتشريعية البشرية، وتتحول مع مرور الزمن من عبادة الله إلى عبادة الأسلاف والأوثان والكواكب وظواهر الطبيعة. وفي كتابه «الله جل جلاله» يقول عباس محمود العقاد: «لما ظهر الإسلام في الجزيرة العربية كان عليه أن يصحح أفكاراً كثيرة لا فكرة واحدة عن الذات الإلهية، وكان عليه أن يجرد الفكرة الإلهية من أخلاط شتى من بقايا العبادات الأولى وزيادات المتنازعين على تأويل الديانات الكتابية».

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تنامى في المجتمع الإسلامي هاجس ضياع الشريعة الإسلامية بضياع مصادرها، ويقف على رأس هذه المصادر القرآن الكريم الذي يعتبر مركز الحضارة العربية، والذي تدور حوله كل الاهتمامات، فمهمة الحفاظ على الدين -أي دين- هي مهمة النوع الإنساني كله، وكلما ارتقى الإنسان بتفكيره وعقله تطورت معه وسائل ومناهج الحفاظ على هذا الدين.

ومن هنا دخلت الحضارة العربية بوابة جديدة تعد ميزة تميزها عن بقية الحضارات، وهي اتباع منهجية خاصة في عملية استنباط الحكم الشرعي، لا تعتمد على الاعتباطية في فهم الشريعة، وهذا ما جعل الفقهاء يؤسسون لنظرية فقهية تهدف لتنظيم عملية استنباط الحكم الشرعي، فأصبحت الممارسة الفقهية خاضعة لقوانين وضوابط صارمة. يقول وائل حلاق أستاذ العلوم الاجتماعية -قسم الدراسات الشرقية- في جامعة كولومبيا في كتابه نشأة الفقه الإسلامي وتطوره: «فبدون نظرية أصول الفقه لم يكن بالإمكان إيجاد حلول للمسائل الجديدة ولا حفظ المذاهب الفرعية وتفصيلها وتجديدها. وبغياب هذه النظرية أيضا يتعذر استخراج أي حكم من مذهب فقهي فرعي مؤسس لجعله يضم المسائل المتعددة التي تمثل أشكالاً جديدة لمسائل أخرى قديمة».

إن عملية استنباط الحكم هي عملية محكومة بقوانين صارمة وليست متروكة للاجتهادات الاعتباطية. صار معها علم التشريع علما ذا منهجية يعكس مقداراً كبيراً من المعرفة الذاتية بقوانين التأويل، وكماً هائلاً من الثقافة المتنوعة في شتى التخصصات، فكثير من المسائل الفقهية فريدة ومعقدة ويتوجب على الفقيه أن يستعمل أدواته المنهجية في النظرية الفقهية، وبما تتطلبه من مبادئ تفكير وتأويل ليتمكن من التمييز بين المسائل المطروحة.

تكمن فرادة النظرية الفقهية في أنها قادرة على استيعاب أي مستجدات لاحقة، والاستجابة لكل الحاجات لكل عصر، فهي نظرية تتصف بقدر كبير من المرونة والشمولية والعمومية، فالفقهاء غالبا ما يطرحون وقائع افتراضية أو متوقعة ومعالجتها لجعل نظرياتهم تلائم أي ظروف اجتماعية جديدة.

يقول وائل حلاق في نفس المرجع المذكور أعلاه: «ينطلق الفقيه ساعيا إلى إيجاد حل للمسألة الفقهية التي لم تجد بعد حلا من النصوص التي تمثل مرجعه النهائي. ويتضمن تحليله للنصوص أموراً، أولها تعيين المقاطع النصية التي يمكن أن تنطبق على المسألة المدروسة، وثانيها ضبط الأبعاد الدلالية وملابسات هذه المقاطع في علاقتها بهذه المسألة المعنية. وتمثل هذه العملية الثانية جزءا من القياس. وأما العملية الأولى فتقوم على إعداد لمرحلة القياس من خلال تأويل اللغة من أجل تحديد معاني الألفاظ المستعملة في النصوص المعنية، وهل هي واضحة الدلالة أو من المتشابه أو من العام أو الخاص أو المجاز. وبعبارة أخرى، يجب قبل استخراج أي حكم التثبت من علاقة النص ومدى مناسبته لمثل ذلك الاستنتاج».

يتضح لنا من حديث وائل حلاق أن عملية استنباط الحكم الشرعي عند الفقهاء المسلمين، عملية ليست مباشرة أو يسيرة، وهذه النظرية الفقهية الأصيلة عند الفقهاء تعكس مقدار التقدم والنضج العلميين اللذين توصل لهما الفقهاء في ذاك الوقت المبكر.