كانت «رحلة» الحج قديما رحلةً أسطورية، تكتنفها الأخطار، وتحيط بها المحاذير، يحمل فيها الحاج على عاتقه مخاوفه وآلام اغترابه الطويل.

كانوا يودّعون الحاج «وداع من لا تُرجى عودته، حتى إذا ما حان أوان عودة قوافل الحجيج، خرج أهل القرى والمدن إلى المشارف، يتنسّمون أخبار أحبائهم، وينتظرون عودتهم بين قافلة وأخرى، ويسألون عنهم من يحتمل أن يكونوا قد شاهدوهم، هنا، وهناك. وما أكثر الذين ذهبوا ولم يعودوا، وما أقل الذين عرفت أخبارهم، وما أكثر الذين اختفوا دون أن يتركوا للمتلهفين على عودتهم ما يهدئ الخاطر، أو يشفي الغليل.

الحاج نفسه -عندما كان يظفر بالعودة الآمنة- يكون قد ملأ جعبته بأكثر من حكاية. حكايات الرفاق الذين ابتلعتهم أعماق البحار، والصحب الذين طرحتهم غارات لصوص القوافل، أو غدرت بهم الحمى، أو أطاحت بهم شيخوختهم، أو خذلتهم أجسادهم المنهكة، فدُفنوا في الأرض التي عشقوا ريحها عمرهم كله.

ومع أن هذه الرومانسية «السندبادية» قد خُتمت، أو خفت بريقها مع التقدم التقني الهائل الذي شمل وسائط النقل ووسائل الاتصال، إلا أن الحج -رحلةً ومعاناةً ومعنًى- يظل موضوعا مثيرا، ملهبا للحاسة الإبداعية أدبا وفنا.

لقد كانت -وما تزال- إحدى أمنياتي أن أرى جهدا بُذل أو يبذل لاكتشاف وتتبع الأثر الذي تركه الحج في «الملف» الإبداعي للشعوب الإسلامية.

فالحج بكل ما يحتويه من معان، وما تحمله رحلته العظمى من دلالات، وما واجه تاريخه من ملابسات وأحداث، جدير بأن يكون قد عبّأ الجعبة الإبداعية لتلك الشعوب بحصيلة غنية من العطاء الفني والأدبي، و«شحنها» بموجات من الزخم الغني الذي يضطرم عادة في وجدان الشعوب تجاه مناسباتها الدينية الكبرى.

إن الحج رحلة «غفران» و«تطهر»، يهيئ لها المسلم نفسه جُلّ عمره، تختلج في أعماقه أشواقه إلى لقاء تلك الأرض الطاهرة، التي قرأ عنها في قرآنه، وتعرّف على أسماء مواقعها، وأشخاصها وأحدائها في كل سطر من سطور ثقافته الرسمية و«الفولكلورية».

هي رحلة «الشوق» العظيم، توهج جذوة العزم على القيام بها. أحاديث، وحكايات الأقارب، والأصدقاء. يذهبون، ويعودون، وقد اكتحلت عيونهم بالرؤى المقدسة.

رحلة قام بها الآباء والأجداد، اختلج في صدورهم الشوق ذاته، وزحمت أعماقهم الأحاسيس نفسها، فامتطوا صهوات أحلامهم إلى تلك الأقاصي البعيدة.

يكفي «الحج» إذن، أن يكون رحلة تطهر وغفران، ليصبح محتوى لأدب بأكمله، وليس لعمل أدبي واحد، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تتيحه «ديموغرافية» الحج، من اجتماع ذلك المزيج العجيب الفريد من الأجناس والألوان والثقافات واللهجات واللكنات والطبائع الشخصية، اتضحت لنا «الإمكانات» الهائلة لاختيار «مواضيع» إبداعية رائعة من وحي هذه المناسبة العظيمة.

وأكاد أجزم بأن التراث الإبداعي للشعوب الإسلامية على مر العصور، استجاب لهذه الإمكانات على نحو أو آخر، ولكنها تظل استجابات متناثرة، لم يتم رصدها وتنميطها، حيث يمكن لأمثالي من غير المتخصصين أن «يعبروا» إليها، ويستمتعوا بها.

إن هذه العجالة، تعتبر دعوة متواضعة لإثارة الاهتمام العلمي، بالنظر في الجانب «الإبداعي» للحج، وإعطائه العناية التي لا أعتقد أنه حظي بها.

* بعض من ثقافة الفتى مهران

* 1982