من أخطر الوظائف التي قد تقوم بها وسائل الإعلام الجديد اليوم، وقد تتورط في مأزقها الخطير بعض البرامج التلفزيونية، وظيفة «تسويق المعتقدات الخاطئة والأفكار الشاذة»، والتي يقوم بها بعض من يتم وصفهم بباحثين أو إعلاميين أو مفكرين بقصد أو دون قصد، وتقديمها للمتلقين والمشاهدين الصغار والكبار، على أنها معتقدات صحيحة، وآراء نافذة، وحقائق يجب الأخذ بها وتصديقها، بوصفها أمرا صوابا وحقا محضا، ما يجعلها معضلة حينما تتسرب إلى العقول وخاصة الناشئة، حيث تستقر فيها، ولا تجد من يفندها، ويرد عليها من أهل الاختصاص، ويقتلها في مهدها، حتى لا تتحول إلى أيقونة يتم التسليم بها كمسّلمة، لأنها قيلت من فلان أو علان ممن وجدوا في وسائل التواصل الاجتماعي، أو البرامج التلفزيونية منبرا ينفثون من خلاله أفكارهم التي قد يكون من بينها ما يتصادم مع العقيدة النقية السليمة، ومع الثوابت الدينية والوطنية.

ابتلينا بظهور «فتاوى» من مدعي العلم الشرعي، ممن ليسوا من أهل الاختصاص بالإفتاء، وليت الأمر توقف عندهم، بل تجاوزهم إلى أن وجدنا الفنان والإعلامي والرياضي والمثقف والمحامي والكاتب، ومن يعرف ومن لا يعرف، وكل من ليس له علاقة بالعلم الشرعي «يفتي» وإذا ما أُنتقد، قال هذا رأيي وليس بفتوى!.

لست بصدد حصر كل الفتاوى، لكن الغرابة في أن هؤلاء أصبحوا يستسهلون الأمر، حتى قاموا يفتون الناس دون علم، ودون خوف مما قد ينجم عن فتاواهم من كوارث دينية وأخلاقية، كالذي جعل من صلاة الجماعة في المساجد بدعة، وغيرها، هذه الفتاوى من غير أهل الفتيا المصرح لهم قد تدخل المجتمع في جدليات وتجاذبات هو في غنى عنها، وتشوش على الناس فهمهم لدينهم، ولعلكم سمعتم ما أحدثته الفتاوى الشاذة في بعض الدول العربية المجاورة لنا قبل فترة من الزمن، كفتوى خمس رضعات من أجل إباحة الخلوة بين الموظفة وزميلها، وفتوى أن موت الراقصة في حادث وهي في طريقها للرقص يجعلها من الشهداء.

ليست فوضى الفتاوى وحدها ما ابتلينا به، فقد ابتلينا أخيراً بفئة حاولت صناعة آراء ومعتقدات خاطئة، وكأنها هي الصحيحة التي يجب على الناس تصديقها، رموها هكذا على مسمع من الناس ومرأى في برامج فضائية وجدوا فيها منبرا يضخون من خلالها أفكارهم غير الصحيحة، دون أن يبالوا برد فعل الناس، فشّوهوا وألقوا معلومات خاطئة جعلت الأجيال الحاضرة تصاب بحيرة وتخبط، كالذي سمعناه قبل فترة من الزمن، وهو يصف الفتوحات الإسلامية بالخطأ!، وكأنه بجرة قلم أو زلة لسان قادر على محو تاريخ مضيء أدهش أهل الغرب قبل أهل المشرق، تاريخ سُطر من ذهب في صحائف التاريخ لصولات وجولات وانتصارات العرب والمسلمين، لم يكن فيه العرب والمسلمون إلا فاتحون نتج عن فتوحاتهم تواصل ديني وحضاري وتجاري وثقافي، بينما كانت حروب الغربيين حروب احتلال وقتل وتشريد وتمزيق لبلاد العرب والمسلمين، لا تزال آثار استعمارهم تعصف بأحوال العرب.

ومثل هذا، كان قدرنا أن بلينا بشخص آخر يقدم نفسه للناس الذين يشاهدونه بالملايين بوصفه من «غلاة المرجئة»!، وهذا قول فيه جرأة لأنه يفتح الأبواب أمام الناشئة الذين قد يجهلون ما معنى المرجئة، أو من هم المرجئة، خاصة إذا سمعوها تقال وكأنها من سهل الكلام الذي يقال في زمن المعرفة، فالمرجئة حينما سألني أحدهم قلت ببساطة حتى يفهم «هم فئة ولهم طوائف بينها اختلافات لكنها في مجملها يخالف أصحابها أهل السنة والجماعة، فبعضها لهم معتقدات خاطئة جدا أقلها خطرا قولهم إن الإيمان قول بلا عمل، فالعمل ليس داخلا في حقيقة الإيمان، وبعضها يزعم أصحابها بأن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان، وغلاتهم يقولون «لا يضر مع الإيمان ذنب»! وفي نفس القضية التي تدخل الأجيال في «تيه» حتى تصبح كثير من قضايا دينهم، قول أحدهم مستخدما برنامجه «أنا أشك في صحيح البخاري ومسلم»، وهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، متجاوزا الأثر الذي تركه الكتابان وقد تناولهما علماء أجلاء سبقوه لا يمكن له أن يبلغ علمهم وما شككوا في الكتابين كما فعل، بل كثير من مسائل الدين وقضايا العبادات والطاعات مفصلة في الأحاديث الشريفة الصحيحة التي ضمها صحيحا البخاري ومسلم، ولا يمكن لعالم دين الاستغناء عنهما، ومع هذا جاء التشكيك في الكتابين على رؤوس الأشهاد، وكان حريا الرد على قائل هذا الكلام من المؤسسات الدينية الكبرى.

المشكلة أن هناك من يسوق لتلك الفتاوى والأفكار، وكأن المشكك فيها «أرخميدس» عصره عثر على الحقيقة ليقول وجدتها وجدتها!.

في الختام: المناقشات والآراء والفتاوى ليست خطأ عندما تكون صحيحة ومستقيمة ومتوافقة مع العقل والفطرة والمنطق، لأنها بكل بساطة لن تتوقف، لكن علينا أن ندرك أنه عندما يخالطها شيء من التشكيك والتضليل والتشويه، وتداخلها الأهواء، وتسوقها الأجندات، وينعدم فيها الإيمان، وتسقط الكلمات والعبارات من الألسن دون حساب، وتجد في برامج الإعلام ووسائله الجديدة والقديمة منبرا تُرسل من خلاله، وتجد من يوظفها في صراع تيارات، ولا يهمه إلا الانتصار لأجنداته وأفكاره، ولو على حساب سلم المجتمع وأمنه؛ فهذا أمر يستدعي الوقوف في وجهها، لأنها دون شك صورة من صور التطرف في حده الآخر، والتطرف في حديه، سواء كان يمينا أو يسارا تشددا أو انحلالا، يبقى تطرفا مرفوضا، لأن ذلك ضد الوسطية في الأخذ بالأمور والتعاطي معها، والوسطية يجب أن تسود فكر الناس كي يستوعب بعضهم بعضا.