تابعت بتقدير الخطوات المتسارعة التي تتخذها وزارة الداخلية لتنفيذ عدد من البرامج الإصلاحية والتأهيلية النوعية الموجهة لنزلاء السجون، استنادا على مبادئ الشرع الكريم الذي تتخذه هذه البلاد دستورا ومنهجا، والتزاما بالقوانين والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، ورغبة في ضمان نيل كل موقوف أو سجين حقوقه، حتى وإن كان خلف القضبان، فكونه مخطئاً أو مدانا في قضية بعينها لا يعني مصادرة بقية حقوقه وحرمانه منها. وأواخر الأسبوع الماضي اهتمت وسائل الإعلام المختلفة بخبر تدشين وزير الداخلية الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف عددا من البرامج الإصلاحية والتأهيلية في سجن بريمان بجدة، وافتتاحه مركز «ثقة» والمرافق الملحقة به من قاعات دراسية وتدريبية وغرف سكنية صمّمت على أعلى المستويات، حيث يعنى بخدمة منسوبي المديرية وأسر نزلاء برنامجي «ثقة» و«إشراقة» أثناء مقابلة أبنائهم النزلاء. كما وضع حجر الأساس لمركز تطوير قدرات النزيلات بسجون منطقة مكة المكرمة.

في مقدمة البرامج الرائدة تلك المعنية برفع مهارات ومؤهلات النزلاء، فبينما تتاح للبعض الفرصة لمواصلة الدراسة والخضوع للامتحانات والحصول على شهادات عليا، لم يتم تجاهل الراغبين في تعلم الحرف المهنية الذين تتوفر لهم الفرصة لذلك على أيدي كوادر من الأكفاء المتخصصين، لضمان حصولهم على فرص العيش الكريم بعد انقضاء فترات محكوميتهم، وهؤلاء تعطى لهم الأولوية للحصول على قروض تعينهم على افتتاح مشاريع صغيرة خاصة بهم، ضمن برامج ريادة التي يرعاها عدد من الجهات الحكومية مثل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة التجارة، والغرف التجارية. ومما يشرح الصدر أن عددا من مؤسسات القطاع الخاص تسهم بفاعلية في تلك البرامج، قياما بواجب المسؤولية الاجتماعية، ورغبة في تحقيق مفاهيم الأمن الاجتماعي.

ولا أعتقد أن هناك في العالم قاطبة من يجهل برامج المناصحة الناجحة التي تقيمها المملكة للمتورطين في قضايا الإرهاب، ممن لم تتلوث أياديهم بدماء الأبرياء، وتورطوا في هذا المستنقع عبر التغرير بهم بواسطة دوائر مشبوهة استغلت حماستهم الدينية وصرفتها عن مسارها الصحيح. وهذه التجربة صارت حديث الجهات المختصة بمحاربة الإرهاب واقتلاعه من جذوره إقليمياً ودولياً، لأن هذه الآفة مشكلة فكرية في المقام الأول قبل أن تكون أمنية، لذلك كان التركيز السعودي على مخاطبة جذور الأزمة، ورد الشبهات، وإيراد الأدلة الدينية الواضحة التي فنّدت مزاعم شيوخ الفتنة ودعاة الضلال. وقد نجحت تلك البرامج الرائدة في إعادة كثير من الشباب إلى جادة الطريق، وساعدتهم على التخلص من الأفكار السوداء التي كانت تعشش في أذهانهم. نجاح برامج المناصحة قاد الجهات المختصة في المملكة إلى تكرارها في مجالات أخرى.

هناك جانب إنساني آخر في غاية الأهمية توليه المديرية العامة للسجون عنايتها، وهو ما دعاني إلى تخصيص مقالي لهذا الأسبوع له، وهو إتاحة الفرصة للسجناء لقضاء خلوة شرعية مع نسائهم، ولم شملهم بعائلاتهم بصورة دورية، ومع أن سجون المملكة عرفت ذلك منذ سنين طويلة، إلا أن كثيرا من الإصلاحات والتطوير تم في الفترة الأخيرة، بدءا من زيادة الفترة الممنوحة للنزلاء، مرورا بكيفية دخول الزوجات وضمان عدم تعريضهن لأي حرج، وانتهاء بالأماكن التي يلتقي فيها النزيل بزوجته، حيث أصبحت تلك الغرف مشابهة للغرف الفندقية الفاخرة. كما أن المحبوسين في قضايا ليست خطيرة أو ذات طابع أمني تتاح لهم الفرصة في قضاء فترة إجازة شهرية تمتد لمدة 24 ساعة في منازلهم إذا كانوا من نفس المدينة التي بها السجن، حيث يلتقون أبناءهم ووالديهم وزوجاتهم، شريطة توفر كفالة حضورية، وتمتد تلك الفترة إلى 72 ساعة إذا كانوا يقيمون بعيدا عن مناطق السجون التي يقضون فيها محكوميتهم. وهذا التجاوب الإنساني مع السجناء ليس غريبا عن تراثنا الإسلامي الأصيل، فهو معروف، وقد وجد في المدونات الفقهية منذ مئات السنوات.

ومن أبرز تلك البرامج المتميزة التي تنفرد بها المملكة برنامجي «إشراقة» و«ثقة»، وهما مخصّصان لمن تم توقيفهم وإدانتهم في قضايا تعاطي المخدرات بكافة أنواعها، ويصنّفان ضمن فئة برامج الرعاية اللاحقة، التي تعنى بالعمل الاجتماعي والنفسي، حيث يتم التركيز على تعزيز ثقة النزيل بقدراته وإمكاناته قبل عودته إلى المجتمع، ويخضع النزيل قبل الإفراج عنه بعدة شهور إلى برنامج مكثف، يشمل الجوانب الطبية والنفسية والدينية والاجتماعية، وتستخدم فيه أساليب مختلفة، بدءا من المحاضرات الدينية والعلاج الطبي المكثف، ودورات لتعزيز ثقة النزيل بنفسه، وغرس عدد من القيم بداخله، بهدف تهيئته للاندماج في المجتمع من جديد، وضمان عدم انتكاسته وعودته من جديد إلى عالم المخدرات، وإقناعه بأن سقوطه مرة في هذا الوحل لا يعني بالضرورة انغماسه فيه إلى الأبد. كما تتم إقامة مسابقات وفعاليات رياضية منوعة، تهدف إلى الترويح عن النزلاء، ومساعدتهم على إخراج تلك السموم من أجسادهم. ويبقى الدور الأكبر لضمان نجاح تلك البرامج في كيفية تعاطي العائلات مع أبنائها بعد الإفراج عنهم، وضرورة عدم ممارسة أي نوع من الضغوط عليهم، فهم بأمس الحاجة إلى العطف والرعاية والاحتواء، فالعديد من المختصين يؤكدون أن أبرز عقبة تواجه المفرج عنهم هي صعوبة اندماجهم في عائلاتهم من جديد، مما يجعلهم عرضة للانتكاسة والعودة من جديد إلى عالم المخدرات، لا سيما أن مثلث الإدمان يتكون من العزلة والملل والفراغ. فكما نتعامل مع المريض بعناية وحنو واهتمام، ينبغي أيضا التعامل مع المدمن بذات الطريقة، فالمخدرات مرض يفوق في خطورته كل الأمراض. وأنا على يقين أن هذه الخطة الإستراتيجية التي تقودها المديرية العامة للسجون والتي تشمل جميع سجون المملكة لتعزيز الجانب الإصلاحي للنزلاء والنزيلات ستحقق أهدافها وستنعكس إيجاباً على المجتمع.

@_hadialyami