كان ولا يزال الصمت والإصغاء لحديث الآخرين في عرف العقلاء والعظماء والحكماء وأصحاب التجارب من أجمل الخصال الإنسانية التي يتحلى بها الشخص، لأن مزية الصمت وملازمته لا يقدر عليها كل أحد، ولكن العاقل الحكيم الذي يثق بنفسه ويعرف جيدا قدرها لا يجد صعوبة في التخلق بهذا الخلق الحسن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، والبعض يعتقد أن من اعتاد التأني وإطالة الصمت إنسان غير طبيعي ويتهم أحيانا بأنه (ما عنده لسان) باللهجة العامية، وأنه بهذا الصمت قد يخسر فرصة جذب انتباه الآخرين واهتمامهم به وضمان حبهم له من خلال الثرثرة والحرص على الكلام ومقاطعة الآخرين وأخذهم بالصوت، وهذا بلاشك تصور خاطئ، فكلما زاد حرصك على الكلام زادت فرص تعثرك، وهدوؤك وإنصاتك يجعلانك أكثر إاتزانا، وفي الصمت ولحظاته عند الاستماع أو الحوار لذة وفوائد، إذ إنه ليس جمودا ولا دعوة للوحدة واعتزال الآخرين، ولكنه حركة تأمل وتفكر وحياة للعقل والروح تتيح لك وللآخرين فرصة تجاوز ردود الأفعال العاطفية المتحمسة، والانتقال للعقلانية من خلال ثوان معدودة ومهمة جدا تدفع للتفكير وتحليل المواقف بحكمة ومهارة، وهو بذلك إذن - أقصد الصمت - يعطي فرصة لك ولمحاورك للتريث وترتيب المعلومات والأفكار، ولكي لا يستثقل الطرف المتلقي الحديث عند استرسال الطرف الآخر المرسل، ليكون الاتصال والتفاعل بين الطرفين أكثر فهما وتناغما وليس سببا للنفور والعجز عن متابعة الحوار، وهناك مثل في اليابان يقول: (إن خير من تنصت إليه هو الرجل الصامت)، وفي الثقافة اليابانية ولغتها أيضا هناك مصطلح (هاراجي) وهو يعني (حديث البطون)، وهذا المعنى يعبر عن مدى احترام اليابانيين للصمت، ويقصد به أن أفضل طريقة للتواصل هي الامتناع عن الكلام، والصمت في مواطنه فضيلة فهو يغنيك عن الاعتذار وعن التعثر والوقوع في الزلل، وهو لصاحبه زينة وهيبة، ولو كان من غير سلطان، وكذلك هو شجاعة وقوة تغلب كثرة الكلام، ولو لم يكن للصمت من فائدة إلا أنه حصن وغطاء يستر صاحبه من العيوب لكفاه ذلك، لأن ضعف المنطق وسوء الخلق يتكشفان مع كثرة الكلام، وقد قيل قديما: (للكلام وقت عند العقلاء ولكن عند الحمقى كل وقت هو للكلام)، وأحيانا كثرة المخالطة تؤثر في سلوك الفرد، حيث يخبرني أحدهم عن قريب له يقول عنه: إنه كان هادئ الطبع ميالا للصمت والتعقل وكان مقر عمله وسكنه بعيدا عن عائلته وأقاربه، وبعد سنوات طويلة انتقل بالقرب منهم فتغير سلوكه بمرور الأيام وأصبح كثير الحرص على الكلام، ومنفعلا يسهل استفزازه، وزادت زلاته وغيبته للآخرين وحتى نبرة صوته عند الحوار أصبحت مرتفعة، وحينها تذكرت مقولة جميلة للفيلسوف الألماني شوبنهاور يقول فيها: (كلما كان الإنسان أكثر اجتماعية كان أقل عبقرية وأكثر ابتذالا)، لأن كثرة الخلطة غالبا تؤثر على البعض فتكشف حقيقتهم وتعري صمتهم المزيف.