ما العلاقة بين النص والواقع؟ النص ماء، والواقع كأس، ومهما تحذلقَ اللغويون، وترافع المتكلمون، واجتهد المناطقة، منذ كتاب (فلسفتنا) وصولاً إلى آخر قطرة في حبر كتاب (معارك من أجل الأنسنة)، فلن يسعهم سوى الرضا بطبيعة الماء، إذ يأخذ شكل الكأس التي وضع فيها، مهما حاول اللطيف توفيق السيف شرح الماء في كأس محمود طالقاني وبازركان، والنبيل عبدالله فدعق في كأس محمد عبده والأفغاني.

النص ماء، قد يتجمد فيتمدد فيكسر الكأس التي وضع فيها، أو قد تزداد حرارته فيغلي بخاراً يحرك القطارات، فكيف لا يحرك الشعوب عند درجة الغليان، وكيف لا يجمدها إذا امتزجت به ودخلت ثلاجة التاريخ، تحت أقصى درجات الحفظ والتبريد.

النص ماء، قابل للذوبان مع كل العقول، لنرى أقصى اليسار يستشهد بأبي ذر الغفاري، أو أقصى اليمين يستشهد بحتى لو جلد ظهرك وأخذ مالك، فالماء يبقى ماء يذوب في كل أيديولوجيا، ومع كل واقع، يحاول رجال المختبرات والبحوث الحديثة تفكيك هذا الماء علمياً، فتفجعهم النتيجة أنه مكون من ذرتين تساعدان على الاشتعال، وذرة أصلية تغذي الاشتعال، فكأنما التفكيك يخرج حقيقة الماء ومعجزته المتحولة في وجه العطشى، إذ يرونه حريقا هناك واحتمال نار هنا.

النص ماء، والماء عند البدو ضرورة تحتمل الحرب، وعند الحضر فائض مضمضة واختلاف مشارب، والماء هو الماء على ظهر عيس تشكو الظمأ، أو في كأس نواسي يطلب المزيد.

النص ماء، والماء في عين المبصر المتعمق بخار البحار، وفي عين الناظر القاصر مطر السماء، وما بين المبصر والناظر تدور رحى المعارك ما بين العلم والأسطورة، علم يستمطر السحاب بمركبات كيميائية، وأسطورة ترى في الرعد صوت السماء الغاضب.

النص ماء، يشتغل عليه علماء الألسنيات، فيصبوا الماء على الماء ليقولوا لنا إنه بعد الجهد ليس سوى ماء، ويشتغل عليه الماديون الجدليون فينكرون كل الألسنيات بل كل الفلسفات المثالية التي ترى في الماء كل شيء، فالمادية الجدلية لا تحب أنصاف الحلول، ولا أنصاف المواقف، فإما جليد سيبيريا، وإما حمم البراكين، كي يعي المثاليون حقيقة الأرض التي غرّهم أن ثلثيها ماء، فظنوا الماء قانونها، بينما في الشمس تكمن جدلية الماء، فالماء لزوجة الكائنات لتنزلق في هذه الحياة منذ ظهورها حتى فنائها، كمادة تتحول من عضوي إلى لا عضوي والعكس عبر ملايين السنين، ينكرها المثاليون بأفعالهم وإن تقمصوا دور العقل بألسنتهم.

النص ماء، جدليته مع الشمس إذ تراه حيناً سحابا يحمل الهتان ويعطي الظل، وحيناً جدلية الماء مع الأرض فتراه بركة ضحلة للوباء تنشر الملاريا والبلهارسيا، النص ماء قد يشربه شاعر ثمل بأناة، فيدعي النبوة كأحمد بن الحسين الكوفي، لكنه يدرك أن زمن النبوة انتهى، فيكتفي بلقب (المتنبي)، رغم أن المعري أعمق، والشريف الرضي أنبل، لكنه صهيل الروح في قلبه، إذ كان الغرور غير الأعمى، والطموح الذي لا يرتوي، والوقاحة التي لا تبالي، فكان المتنبي.

النص ماء، النص ماء، والماء مجازه السراب البعيد، ولهذا قال أحد رجال الماء (هل غادرَ الشعراء من متردّم)، لكن النص على لسان محمود درويش سار في (أثر الفراشة) فتجاوز شرنقة (المتردم) إلى أجنحة (أبي تمام) في سؤال الناس له: لماذا تقول ما لا نفهم، فقال لهم: ولماذا لا تفهمون ما يُقال.

النص ماء، ونزار كَسَر الجرّة وشرب من علب البلاستيك، وركل البعير على قفاه وركب عربات القرن العشرين في الشعر والحياة، وكان (محمد العلي) آخر الرجال في (لا ماء في الماء)، فكأنها (لا نص في النص) فالقافلة محملة بالمعنى، أما القافية فمن سقط المتاع.

أخيراً كان الماء في قربة (العباس) مرمى للسهام، فاستحال الظمأ شهادة، وصارت كل أرض (مومس عمياء) تنتظر السياب يحكيها، ولا يأتيها سوى مظفر النواب كبذاءة لا تعتذر من سامعيها، بقدر ما ترى أنها مرآة لبذاءتهم، لنكتشف متأخرين أن الواقع سيد الماء، ولهذا لم تعطِ البادية لابنها ما أعطته الرصافة في عيون المها، ورأى الشافعي في ماء مصر ما لم يره في ماء العراق، الماء واحد، لكن كؤوس الشاربين غير، فهل نصدق (لا ماء في الماء). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ندرأ بها عيون أهل الذحل.