من المفترض أن يتصدر التعليم والجامعات قائمة المؤسسات الرسمية في النزاهة والشفافية في الأداء والجودة في العطاء؛ لكونهما المؤسستين المعنيتين ببناء النشء وتربية العقول وتوجيه السلوك نحو الأفضل من الأعمال والأصدق من الأقوال، وكما أن المؤسستين مسؤولتان عن مستوى جودة مخرجاتهما التي تمثل جميع أفراد المجتمع بكافة شرائحه وطبقاته ومستوياته، ومسؤولتان كذلك عن مدى نجاح وفاعلية ما تم غرسه من مضمون المحتوى التعليمي من قيم ومبادئ وعلوم مختلفة في أذهان الدارسين من جهة، وفي سلوك القيادات التعليمية من جهة أخرى، إذ يمثل كلاهما مخرجات التعليم والجامعات التي تترجم وتقيم مستوى الأداء عملياً.

ولعله من المخيب للآمال، ما تم تداوله إعلامياً حول نتائج رصد تقييمي لهيئة الرقابة والتحقيق، لقطاعات الدولة المختلفة التي تقع تحت مظلة الخدمة المدنية، وذلك في إطار طبيعة أعمالها الذي يشير إلى أن 86% من عدد البلاغات والشكاوى التي وردت للهيئة كانت تتعلق بوزارة التعليم بما تتضمنه من جامعات وإدارات تعليم ومدارس، وذلك خلال العام المالي 1438-1439، وتضمنت الشكاوى مخالفات إدارية صريحة تتصل بترقيات وتوظيف، وصرف رواتب على الرغم من الانقطاع عن العمل، وتكليفات إدارية غير نظامية، وصرف بدلي الندرة والتفرغ للبعض دون وجه حق، وتغيير بيانات في مستحقات لترقية علمية، علاوةً على ما تم التقديم له من بلاغات حول مخالفات وتجاوزات لتعيينات الأقارب والمعارف للمسؤولين في التعليم والجامعات، وقد تم تحديد بعض الجامعات بالاسم، وهي من الجامعات التي نالت مؤخرا الاعتماد المؤسسي من هيئة تقويم التعليم، بل وما زالت تحتفل وتتباهى بذلك، هذا علاوة على الشكاوى بعدم وجود آلية واضحة لتوزيع الإسكان بالجامعات، إذ يستأثر به البعض بينما يُحرم منه آخرون، ومخالفات بشأن التعاقد والإعلان عن الوظائف الشاغرة الذي يتم شكلياً بينما يُستبعد كافة المتقدمين رغم أهليتهم، إضافة إلى عدد من المخالفات المختلفة والمتجاوزة للتوجيهات وللائحة الحقوق والمزايا المالية من اللائحة التنفيذية لنظام الخدمة المدنية.

وفي حقيقة الأمر إن تلك النماذج من البلاغات والشكاوى التي تم التصريح بها من قبل هيئة الرقابة والتحقيق إنما هي غيض من فيض؛ لكونها لا تمثل سوى جزء بسيط من الشكاوى التي يعانيها قطاعنا التعليمي بصفة العموم والجامعات على وجه الخصوص، والتي يعكس واقعها الفعلي سبب إخفاقنا الإداري والمؤسسي لأهم قطاعاتنا التنموية، والذي انعكس على ضعف المخرجات وتعثر القيادات الإدارية في تحقيق أهدافنا التنموية، ليس في مجال التعليم فحسب، وإنما في جميع القطاعات الأخرى لكونها نماذج من تلك المخرجات، علاوة على أن ما تم رصده من هيئة الرقابة والتحقيق من تجاوزات مختلفة لتلك القطاعات هي شبيهة بتلك التي تصدرتها الجامعات والتعليم.

وفي إطار ما نسعى إليه لتحقيق مستهدفاتنا التنموية وفق ما يخدم إستراتيجيات مفهوم الرؤية ببنودها وبرامجها ومعاييرها التي تتطلع نحو بناء السعودية الجديدة، بل السعودية العظمى بجميع مقدراتها التي تستحقها، وبما يؤسس لمستقبل واعد ومرحلة تنموية جديدة، التساؤل المطروح، أين هيئة الرقابة والتحقيق من متابعة تلك المؤسسات وحوكمتها في السنوات السابقة؟! ولماذا لم تُشدّد الرقابة عليها إدارياً، وقد علمت بحجم البلاغات والشكاوى ضدها؟! لماذا لا يكون هناك تعاون بين الهيئة ونزاهة؟! وكيف يتسنى لهيئة تقويم التعليم منح الاعتماد لجامعات تعاني من ذلك الفساد الإداري والمالي؟! وأين هيئة الرقابة والتحقيق من ذلك؟! وأخيرًا ما نتيجة ذلك الرصد لحجم البلاغات والشكاوى ضد التعليم والجامعات، هل من مساءلة وهل من محاكمة؟!، وعليه ما الإستراتيجية المستقبلية لهيئتي الرقابة والتحقيق وتقويم التعليم، نحو إقرار آلية مستجدة تناسب الخلل الحاصل في ذلك القطاع التنموي الهام؟

ومما تجدر الإشارة إليه أن عدد الشكاوى والبلاغات التي تم رصدها من هيئة الرقابة والتحقيق بخصوص تفوق التعليم والجامعات فيها سلباً حتى رجحت كفتهما في الشكاوى، فإن الحالة تتشابه في عددها وتفوقها مع تلك الدعاوى المرفوعة للمحاكم الإدارية حول ذات القطاع ويضاف إليه وزارة الصحة، وعليه نأمل من الجهات المعنية بمتابعة الأداء الرسمي وتقييم مستوى إنجازاته وإخفاقاته، بالرجوع إلى المحاكم الإدارية كذلك، ليس لرصد العدد فحسب، وإنما للوقوف على حقيقة الإشكاليات الحاصلة في تلك القطاعات، للحد منها ومعالجتها إدارياً، في داخل القطاعات نفسها بحوكمتها وتصحيح أوضاعها وسد ثغراتها قبل أن تصل إلى المحاكم؛ لأن تراكم تلك الدعاوى في المحاكم الإدارية ضد تلك الجهات يؤثر على جميع الدعاوى الأخرى بتأخير البت والحكم فيها بسبب زيادة عدد الدعاوى المرفوعة للمحاكم على اختلافها.

مما لا شك فيه أن ضبط الأداء وتحقيق شفافيته يحتاجان لآلية جديدة فاعلة وإستراتيجية دقيقة تتلاءم مع حجم الإخفاقات الحاصلة، وذلك يحتاج لمتابعة لصيقة ومستمرة لمراكز الإدارات والمؤسسات بمنشآتها المختلفة، كما يحتاج لإجراءات تابعة تُمكِّن من المساءلة والحوكمة للجهات المختلفة بمسؤوليها على اختلاف مناصبهم، وعليه فإن القرب المكاني من مراكز تلك القطاعات مطلوب، كما أن تيسير آلية التواصل المباشر مع الجهات المسؤولة عن المتابعة والحوكمة مهم وضروري، لمختلف المواطنين المتظلمين والمنتسبين لتلك القطاعات، بحيث يتسنى لهم رفع شكواهم مباشرة دون مماطلة وتسويف، وذلك سيدفع كافة القطاعات لضبط الأداء وتوخي المصداقية والأمانة فيه وفق ما يقتضيه النظام وما تفرضه المصلحة الوطنية المستهدفة.