قرأتُ من قبل الكتاب الأول من السيرة الذاتية لميخائيل نعيمة (السبعون) وتوقفتُ عن القراءة لأمور أخرى، وهذه الأيام عدت، وانغمستُ في جزئي الكتاب الثاني والثالث بشكل كبير جدًا.

في صفحاته التي تتجاوز 1200 صفحة، يتحدث عن مسيرته في الحياة خلال 70 عاماً التي قضاها من أقصى الأرض إلى أقصاها الآخر، من لبنان إلى روسيا إلى أميركا مروراً بفرنسا. وفيها يتحدث بلغة أدبية رفيعة جداً وثرية جداً عن الحروب، وعن الحياة، وعن الحب، وعن الدروس المصاحبة، وعن خيبات الأمل التي مرت به أو مرَ بها، وعن الألم الذي سببه له مطاردة الدولار والبحث عنه في المدن الكبرى والصاخبة، وعن أشياء مادية وروحية كثيرة، كتبَ عنها بطريقة أدبية وفلسفية مذهلة.

وفي عز انغماسي القرائي بهذه التحفة العظيمة جاءت موجة وسائل التواصل الاجتماعي بكل فئاته لتجرفنا مع برنامج تكبير الصور للشباب، ولمن هم على مشارف الكهولة، ورغم أن الموضوع صاحبه كثير من السخرية والتعليقات ونوع من السعادة، إلا أنه في وجهة نظري وبناءً على الأثر الذي صنعه ميخائيل بداخلي، رأيته يحمل عددًا من الأوجه التي دفعتني دفعًا إلى التفكير بكتابة مقال مخصص لهذا الشأن.

حب الإنسان لكشف المستقبل والتفتيش عن نفسه من خلال بناء التوقعات المستقبلية له، أمر لا يخلو منه أي إنسان مهما اختلفت درجته أو فئته أو ثقافته أو أي اعتبارات أخرى. الهبة الشعبية التي صاحبت البرنامج تكشف لنا عن أهمية معرفتنا وتنبؤاتنا بما يمكننا أن نصل إليه في المستقبل. صحيح أن الموضوع مجرد تخيّل عن الصورة التي من الممكن أن تصل إليها بعد عددٍ طويل من السنوات، إلا أن الأعمق من هذا الأمر، هو ما حجم الدروس التي ستحتويك عندما تصل إلى وجهك الذي ظهر لك؟.

شاركتُ بصوري في بداية انتشار البرنامج مع عددٍ من الأصدقاء على مجموعات الواتساب، وأخذتُ الموضوع بكثير من السعادة وقليل من التفكير، إلا أنني وبعد مضي يومين على نشر صوري، وبعد رجوعي للتأمل فيها لأوقات طويلة، سرحتُ مع خيالي في عددٍ من الأسئلة المهمة التي انتابتني، وأخذت تسيطر على تفكيري وعقلي.

عندما أصل إلى ذاك العمر، ما هي الأهداف التي سأحققها؟ ما مقدار خيبات الأمل التي ستصيبني في هذه السنوات الطويلة؟ كم عدد الأصدقاء الذين سيبقون بالقرب والجوار؟ كيف سأمضي الوقت المتبقي من عمري؟ كيف ستكون علاقاتي الاجتماعية مع أقاربي وبيئتي القريبة والبعيدة مني؟ أين سأعيش السنين المقبلة في مدينتي أم في مدينة لم تخطر على بالي اليوم؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي ولا يوجد لها حد، ومهما تغولت وبحثت وغصت وتعمقت في بحورك الداخلية عن طريق الأسئلة التي تحاول بها كشف مستقبلك، فإنك ستضطر إلى أن ترجع إلى الالتفات للخلف للنظر في بعض النقاط المفصلية التي مرت بك في حياتك الماضية، لتحاول أن تحدد أي منها ستتكئ عليه بشكل أكبر للاستمرار في حياتك المقبلة.

بناءً على تساؤلاتي للأصدقاء في مجموعة الواتساب حول هذا الموضوع، ذهب الحديث وتشعب عن أفكارنا ونظرتنا كشعوب عاطفية لدور المسنين وأثر ذلك على المسنين أنفسهم. وطرحت رأياً، أرى أنه فكرة تستحق التأمل والتفكير بنوع من التجرد عن العاطفة. أقول: عندما يصبح الإنسان في عمر متقدم من السن، لماذا يُثقل على أبنائه وبناته بأن يعيش معهم ويكلفهم كثيرًا من الوقت والجهد والمال لتوفير سبل الراحة له؟ وباستطاعته وعبر برامج حكومية متخصصة يدفع قيمتها وهو على رأس العمل (التأمينات الاجتماعية كمثال) أو برامج غير ربحية، أن يعيش المتبقي من عمره في أماكن مخصصة لمن هم في مثل عمره، ويخرج يوما أو يومين في الأسبوع كزيارة لأبنائه وبناته في مساكنهم. معيشته في مثل تلك الدور ومع أصحاب في مثل سنه باعتقادي الشخصي هي أمر إيجابي جداً، فضلاً عن الرعاية الطبية والصحية بشتى أنواعها المتخصصة لهم.

بطبيعة الحال لن نستطيع أن نصل إلى هذه المفاهيم في ظل فكرتنا الحالية عن دور رعاية المسنين وعن أنها نوع من أنواع العقوق، لذلك يجب بداية أن نغير من مسميات هذه الدور لتكون أكثر إيجابية، وانظر على سبيل المثال ماذا فعل الأميركان لمثل هذه الفئات، قاموا بإنشاء وزارة متخصصة في رعاية شؤونهم أسموها (وزارة شؤون المحاربين القدامى).

وبما أننا تطرقنا لهذا الموضوع، فإنني أتقدم بمقترح لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حيث أرى أنه من المهم أن يتم نقل دور المسنين الحالية (مع تغيير مسمياتها) من مواقعها التي هي فيها إلى مواقع أكثر حيوية ونشاط إنساني، حيث أرى أن دار رعاية المسنين في الرياض اليوم على سبيل المثال، ليست في مكانها الصحيح، أعتقد أن نقلها من مبناها الحالي إلى مبنى في (بجيري الدرعية مثلاً) حيث الفعاليات والتجمعات اليومية من كل فئات المجتمع سيخدم الدار، ويجعل هناك دافعية أكبر لأن يستمتع كبار السن الموجودين فيه بالحياة بشكل مختلف من دون أن تتكلف الدار شيئاً من المال أو الجهد. وأعتقد أن اختيار المواقع الحيوية التي تضج بالحياة اليومية لكل دور المسنين في مدن المملكة ستعود على نفسيات الساكنين فيها بمزيدٍ من الحياة والسعادة والأنس.

يقول الصديق الجميل الدكتور محمد بن دايل تعليقاً على ما جاء في تساؤلاتي السابقة عن دور المسنين، وهو باحث الدكتوراة المتخصص في دراسة السلوك البشري والتنظيمي في الإدارة والرعاية الصحية: إنه كان يعتقد أن الموضوع عقوق لدى الغرب، ولكن بعد البحث والدراسة وجد أن (دور العجزة) هي في نظر الغربيين تكريم ورغبة يلتقون فيها كبار السن، ويمارسون هواياتهم وأنشطتهم عن قناعة خاصة.

@faissal_ms