وامتدادا للسؤال الأزلي حول جوهر الإنسان وماهيته، هل هو ذئب مفترس أم حمل وديع؟.. قادت هذه التساؤلات عن جوهر الإنسان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في بحثه عن حقيقة الإنسان، للقول إن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، فالناس العاديون ستظهر حقيقتهم بجلاء، إنهم ذئاب في ثياب خراف، حالما يتخلصون من كل القيود والقوى الرادعة التي منعتهم من التصرف كالذئاب.

إن تاريخنا مكتوب بالدم، عنوانه الأبرز العنف المتواصل، هذه الحقيقة ألهمت كثيرا من الفلاسفة والمفكرين للعمل على إيجاد تنظيمات مجتمعية جديدة تفرض علينا العيش بسلام وتسامح بعيدا عن النزاعات، ومثل هذه المدن الفاضلة التي يعيش فيها البشر بتسامح ظلت عصية عن التطبيق على أرض الواقع، فحضارة الإنسان مهما بلغت من التقدم والتحديث ستظل هشة، وقابلة للعودة إلى حالة البدائية من جديد خلال مدة وجيزة. واختلال شرط وحيد من شروط التنظيم الاجتماعي سيؤدي لإظهار الطبيعة البشرية الميالة للتدمير على حقيقتها، لتتحول هذه الحضارة الحداثية إلى ساحة للعصيان والتخريب.

إذن لماذا يبدو البشر اليوم، في كثير من بلدان العالم - المتقدمة منها على وجه الخصوص - وكأنهم يعيشون في عالم طوباوي، عنوانه التسامح والتنوع وحقوق الإنسان، في مجتمع علمي تبدو معه كل غرائز العنف الدفينة في العقل اللاواعي للإنسان، وكأنها تحت السيطرة. بفضل التقنية التي تتحكم في إنسان المجتمع العلمي المتسامح.

إن الحياة اليومية في المجتمعات الغربية تكبلها التقنية، وتسيطر عليها علاقات السوق التي جعلت البشر في حالة أشبه بالمساواة، وأشبه بالتسامح، وأشبه بالتنوع، تربطهم في الحقيقة عقيدة السوق وليس أي عقيدة أخرى، في مجتمع تتحقق فيه المصالح الاجتماعية عبر سعي الأفراد إلى أقصى مصالحهم الذاتية. والسماح بدخول الآخر - المختلف عرقيا ودينيا وثقافيا - من بوابة هذه المجتمع لن يتحقق ما لم يكن هذا المختلف نافعا ومفيدا لهذا السوق، مع قابليته المسبقة للانتظام في عقيدة السوق وقيمه.

إن بعض المفردات الطنانة كحقوق الإنسان والتنوع الثقافي والتسامح الديني وحقوق المرأة، سيضرب بها عرض الحائط عندما تتعارض مع عقيدة السوق بقانونها العام: ماذا سيقدم الآخر المختلف لهذا السوق. وما هي الجدوى الاقتصادية لوجود الآخر المختلف للسوق القومية، فعالم اليوم هو عالم السوق، بما يتصف به من حركة متسارعة للتخصيص وتوسيع التجارة ونقلها لبلدان ما وراء المحيطات، وهذه الحركة تتطلب كسر كل الحواجز الثقافية التي تعيق عملية التبادل التجاري، وكل الثقافات والأديان والأعراق المختلفة سيتم تدجينها وتحييدها حتى يسهل إدماجها وإلحاقها بقوى السوق الرأسمالية.

يجتمع البشر من كل دول العالم في المدن الغربية الحديثة، يربطهم مع اختلاف ثقافاتهم رباط السوق المتين، وهو مع متانته الظاهرة سهل الانحلال، فالأفراد الذين ثبت عدم جدواهم السوقية، وكل من تحققت فيه شروط اللاجدوى الاقتصادية، سيجد نفسه معرضا لشتى أشكال التمييز العرقي، ومحاطا بأبشع مظاهر اللا تسامح الديني، التي ستقذف به في مخيم للاجئين لا تسكنه حتى الكلاب الضالة.

إن هذه المدن الصناعية الأوروبية، الجامعة لأطياف البشر المتنوعة، شهدت مع بداية تأسيسها، وقبل هجرة الفلاحين وأبناء الأرياف لها، تأسيس شخصية المخبر السري والعميل السري ورجال التحري، في مجتمع بشري سيحمل لافتات رنانة ومخادعة كالتنوير والتسامح والمساواة وحقوق الإنسان.

إن شخصية المخبر والعميل السري ورجل التحريات، أصبحت الشخصيات الرئيسة وأبطال الأدب الرفيع، الأدب المتزامن مع تأسيس الآلات البخارية والمدن الصناعية، ولكن بعد الانتظام في عالم الأسواق وتشرّب قيمها ومبادئها، فقدت شخصية المخبر بريقها المعهود، لتحل محلها شخصية الإنسان المستلب والمغترب الفاقد للقيمة والهوية الذي تقاس قيمته الإنسانية بناء على ما يقدمه للسوق بأعلى كفاءة ممكنة.

هذا التنوع والتسامح والرغبة في تحصيل حقوق الإنسان لم تكن قادرة على إخفاء الرغبة الغربية الجامحة لتنميط بقية الشعوب تنميطا شاملا للانضواء تحت عقيدة الأسواق وقيم العولمة ذات الرأسمال الطليق، الذي لا يعترف بأي حواجز وطنية أو ثقافية في ظل زمن يشهد انتصار السوق وقيمه وأتباعه ومناصريه.

استطاعت عقيدة السوق أن توحد أذواقنا وألسنتنا ومناهجنا البحثية وطريقتنا في المأكل والمشرب واختيار أثاث منازلنا، استطاعت أن توحد نظرتنا للحياة، وهذه العقيدة ـ وإن بدت متسامحة ومتنوعة ـ فإنها في طريقها لتوحيد البشر قسريا تحت رايتها التي لا تقبل الاختلاف والتسامح مع الآخر في الحقيقة.