يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق عليه: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء».

ولاحظ قوله، عليه الصلاة والسلام، «بقبض العلماء''، لم يقل ''بقبض الكتب»، كلا. الكتب موجودة، ووسائل التقنية التي تحفظ النصوص موجودة، لكنها لا تغني عن وجود العلماء الراسخين الصادقين، بل إن مجرد حفظ النصوص بلا فقه صحيح، قد يكون وبالا على صاحبه وعلى غيره، واعْتَبِر ذلك في الخوارج، فإنهم مع شدة حفظهم وقراءتهم، مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وكفَّروا المسلمين، وذلك بسبب الخلل المنهجي لديهم. فالعلم ليس مجرد معلومة تُحفظ وتُتلى، وإنما هو فهمٌ وسداد وخشية لله، واتباعٌ لمنهج السلف الصالح.

إن العلماء الراسخين يقولون ما يرضي الله ورسوله، رضي من رضي، وغضب من غضب، متوخّين في ذلك الحكمة، وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، بأدب جمّ، وعلم راسخ، وخوف من الله، وفقهٍ للمآلات.

وأحسب أن شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- هو أحد أولئك العلماء الراسخين، إذ رزقه الله علما وفهما وزهدا في الدنيا، وسيرا على منهج السلف الصالح، وكانت سيرته العملية أنموذجا للمنهج السلفي في التعامل مع الموافقين والمخالفين، وفي التعامل مع الفتن والحوادث، وفي التعامل مع الراعي والرعية، وفي شأنه كله، فهو على جادة السلف حقيقة وتطبيقا، لا ادّعاءً مخالفاً للواقع، فما أحوجنا إلى الراسخين في العلم، أصحاب القدوات الطيبة، والعقول الراشدة، والمواقف المُشَرِّفة.

إن ما يُميِّز شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- أنه يُعلِّم الهَدْي والسَمْت، كما يُعلِّم العلم تماما، فيستفيد الناس من منهجه ومواقفه أكثر مما يستفيدون من علمه، وفي كلٍّ خير. لقد كنتُ شاهِدَ عَيَان إبان دراستي عليه في الجامعة وفي مسجده، شاهدتُ الثبات والعقل والفهم العميق، والسير على جادة السلف، فما كانت الحوادث والفتن وشَغَب المتحمسين ومزايداتهم، ما كانت تزيده إلا حلما وأناة، لقد كان ثباته على الحق كثبات الجبال الرواسي، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويوصي بالسكينة، والسمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ويحذّر من الإثارة، ويمتص غضب الغاضبين بصبر وعلم، وحوارٍ مقنع، ويذكر أدلة نقلية وعقلية، وآثارا سلفيّة، يعجب الإنسان من دقة استنباطه، وفقهه للمآلات، فكان بحق سلفيّا على الجادة.

وقد يكون من المناسب -أخي القارئ- أن أذكر هنا رؤية شيخنا ابن عثيمين عن مفهوم السياسة والعمل السياسي، لترى العلم والعقل من خلال جوابه عن سؤالٍ لأحد الشباب في هذا الشأن، إذ قال رحمه الله لذلك الشاب: الشريعة -بارك الله فيك- كلها سياسة، سياسة للخَلق فيما يتعلق بعبادة الخالق، وسياسة للخَلق فيما يتعلق بمعاملة الناس، وسياسة للخَلق فيما يتعلق بتدبير الأمور وتصريفها.

ومن المعلوم أن السياسة التي تتعلق بتدبير الأمور وتصريفها، لا يمكن أن تكون من كل أحد، ولا تعتبر لكل إنسان، ولو كانت كذلك للزم أن يكون كل واحد من الأمة أميرا على نفسه وعلى غيره.

ومن المعلوم أن من زمن الخلفاء الراشدين، والسياسة وتدبير الأمة لها أناس خاصون، الخليفة ومن يختارهم، ويكونون مستشارين له، وليست السياسة تُلقى في الأسواق ومجامع العامة، ويقال: ما تقولون في كذا، ما تقولون في كذا، ولا شك أن الذين يتخبطون في هذه الأمور -لا شك- أنهم على خلاف مذهب السلف، وأنهم لا يثيرون إلا البلبلة، وصد الناس عما هو أهم من ذلك بكثير.

أرأيتم مثلا: العقود السرية، وأحوال الحرب، وشؤون العلاقات الخارجية مع الناس، هل يليق -بأي عقل من عقول بني آدم- هل يليق أن تطرح في الأسواق بين أيدي العامة؟

الإنسان في بيته لا يمكن أن يُطْلع الناس على ما في بيته، فكيف مثلا دولة، حكومة، تُطْلع الناس على كل ما تفعل، أو تخبرهم بكل ما تريد؟! من قال هذا؟!

بأي كتاب أم بأي سُنّة أم بأي عمل من عمل الخلفاء الراشدين؟

هل كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أراد شيئا، يذهب إلى الأسواق، أو يأمر من في الأسواق، يقول أريد أن أفعل كذا وكذا؟، بل كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، وهي غزوة يستعد الناس لها، إلا في تبوك.

فأمور السياسة العامة، لا يمكن أن تكون بأيدي العامة، ولا بألسنتهم، ومن رام ذلك فقد رام أمرا لا يمكن لأي عاقل أن يقوله إطلاقا، هل يمكن أن نطلع العامي الذي في السوق يبيع الخضرة واللحم والخبز وما أشبه ذلك، على أسرار الدولة وملفاتها؟ من قال هذا؟!

فنصيحتي لهؤلاء الذين ابتلاهم الله تعالى بمثل هذه الأمور، أن يراجعوا أنفسهم، ويعلموا أنه ليس من الحكمة أن كل شيء تفعله الدولة يكون بين أيدي الناس، هناك أشياء تدبّرها الدولة قد يكون ظاهرها عند البسطاء من الناس غير صحيح، لكن عند العارفين بالأسباب والنتائج تكون صحيحة.

أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية راجعه من راجعه من الصحابة وهم كبار العقول، ولم يعلموا النتيجة؟، وأنا لستُ أريد أن أُلحق حكام الأمة الإسلامية اليوم بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من حيث النصح للأمة، والرشاد والإرشاد، لا، لكن أقول: إن مسائل الدولة، مسائل خاصة بأناس معينين، لا بكل أحد.

فأنا أنصحك أنت، وأطلب منك أن تؤدي هذه النصيحة لكل من تكلموا بهذه الأمور، أن يشتغلوا فيما هو أهم، ويسألوا الله التوفيق للدولة.