لست أفهم للأدب معنى ولا أقيم له وزنا ما لم تقو وشائجه بالحياة ويندمج فيها اندماجا كليا، حتى يتبطن أسرارها ويستعرض صورها في أتم ما تكون من الجلاء والوضوح، وحينئذ يكون الأدب قد أدى رسالته السامية كما يجب أن تؤدى سالمة من شوائب السخف والغثاثة والتخليط.

ولن يكون الأدب حقيقا بالسحر والخلود ما لم يتوغل الذرى العالية ويتغلغل في الأعماق السحيقة وينفذ إلى اللباب المطمور بالقشور، التي يكتفي بها الأدباء السطحيون، يحومون حولها ولا يتجاوزونها زاعمين أنهم بلغوا من الأدب غايته ونفذوا إلى صميمه!.

وقد يكون في ميسور كل واحد منا أن يمسي أديبا إذا كان قصارى الأدب تسويد الطروس بكلمات مكرورة يرتاح القارئ البسيط إلى ضخامتها وفخامتها ويأنس برنين الأجراس التي تدوي في ثناياها، ولكنها في الحقيقة كما الطبل الأجوف لا تدل على شيء، ولا تصوّب إلى هدف، فالأجراس ما جدواها وما أثرها؟ إن كانت لا تدعو إلى صلاة ولا تنذر بخطر ولا تبشر بفوز؟.

والشعر أمره أسهل وأيسر، إذا كان حمادى الشاعر الاحتفاظ بمواضيع القدماء من ترحيب بقادم أو توديع لراحل أو رثاء لفقيد أو تهنئة بعيد، وما إلى هذه المواضيع المطروقة البالية، ويستطيع أن يضحى شاعرا كل من ضرب على الوتر القديم وفسر الماء بالماء مرددا مع الشاعر الأول:

كأننا والماء من حولنا * قوم جلوس حولهم ماء

والليل ليل والنهار نهار * والأرض فيها الماء والأشجار

والناس مثل الناس في أزمانهم * الميت يدفن والبقاء محال

وما إلى هذا الخلط مما تمضغه الأفواه وتلوكه الألسن! وكل أديب لا يستوحي أدبه من الطبيعة الماثلة أمامه في كل شيء فليس لأدبه قيمة، ولا ينبغي أن يلفت أنظارنا أو يستحق منا الاهتمام، والطبيعة العارية والطبيعة الكاسية هما عندي بمكان واحد، بل قد يستلهم الكاتب البارع والشاعر المجيد من جبال الحجاز الجرد ومفاوز نجد المقفرة أسمى وأمتع مما يستلهمه من غابة بولونيا في باريس ورياض سويسرا، وقد يستوحي الأديب المكي من سيل وادي إبراهيم الرائع أفكارا لا تقل روعة وجمالا عما يستوحيه الأديب الأوروبي إذا وقف أمام شلالات نياجرا، ويرى الأديب المدني في سيل وادي العقيق والأديب الطائفي في سيل وادي وج منظرا أبعث على الخلابة والفتنة وأدعى إلى التفكير والتأمل من بحيرة ليان بجنيف وشلالات الزمبيز في شرق إفريقيا الجنوبية، ذلك لأن الخصوبة والجدوبة إنما تكونان في نفس الأديب قبل أن تكون في المشاهد الطبيعية التي يستعرضها أمامه، فخصوبة الطبيعة إنما هي أصباغ وأفواف، فالأزهار يدركها التصويح والخضرة يلوي بها الجفاف، والأرج يمضي مع الأنفاس، والفناء يتعقب هذا كله، أما خصوبة النفس الحساسة فمستمرة، وأما إنتاجها فمطرد، ولا أدل على ذلك من الشعر الجاهلي فقد مضت عليه الحقب الطوال وهو ما يزال يفيض بدقة التصوير وسمو الفن وبراعة الأداء، فهل كان الجاهليون يحيون في جنات النعيم؟ كلا فقد كانوا في أشد ما يمكن أن يتصوره الإنسان من الشظف والشقاء وعدم الاستقرار، وكانوا دائبين في الحل والترحال يتسقطون مواقع المطر، وينتجعون منابت الكلأ، ترفعهم النجود وتهوي بهم الأغوار، ولكنهم كانوا على هذا في خصب متجدد من نفوسهم، وكان خيالهم المتوثب يساعفهم على الافتنان في الوصف والدقة في التصوير والبلاغة في الأداء، وكذلك نحن فلئن حرمتنا الطبيعة من الرياض المونقة والمناظر الفاتنة فلن تقدر أبدا أن تحرم عقولنا من التفكير وأذهاننا من التخيل، فواجب محتوم على كل أديب ممتاز يرنو إلى الكمال والمثل العليا في الأدب أن يلابس الحياة الصحيحة ويتعمق في ملابستها، وأن يفسح لها من نفسه طريقا حتى تلابسه هي وتنطوي فيه، وأن يعبر عن الشيء - كائنا من كان - بقدر إحساسه به وأن يتخيل به الغاية قبل أن يسلك المذهب حتى لا يسير على ضلال ولا يذهب على غرر، وليعلم بعد ذلك أن الحياة ما تزال هي هي في مظاهرها العظيمة والحقيرة، فالحياة التي تصخب بها الأمواج في البحر هي الحياة التي تعصف بها الأرياح في البر، وحياة الذرة الضئيلة هي حياة أكبر كائن ولا تختلف عنه إلا نسبيا، كما أن حياة الحشرات والديدان في الأغوار والأعماق تماثل حياة العصم في رؤوس الجبال السامقة، وهي كذلك مثل حياة الأطيار في الفضاء الذي لا نهاية له.

* صوت الحجاز - ع 181 (الثلاثاء 8 شعبان 1354) ص1.