«وقوف الحجاج على صعيد عرفات» المشهد المهيب، ونحن نرقب تكامل وصول وفود الحجاج إلى بلادنا من مشارق الأرض ومغاربها، وفود تعقبها وفود، قادمة بقلوب مليئة بالشوق واللهفة للمشاعر المقدسة، أتوا من كل بقاع الأرض وقد صغرت الدنيا في أعينهم بكل ما فيها من ملذات وشهوات، وهم يستحثون الخطى سريعة نحو البيت العتيق، وكلهم أمل وتطّلع إلى معانقة الكعبة، وملامسة ثرى عرفات الله، وشم نسائم منى ومزدلفة، وليس على ألسنتهم إلا أعظم نداء يرددونه في مثل هذه الأيام المعدودات «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وكل أمانيهم أن تكتمل أيام حجهم بالمغفرة والرحمة، وأقصى أحلامهم أن يعودوا إلى ديارهم وأهليهم وقد قبل الله منهم حجهم وبارك أعمالهم، وأدوا مناسك حجهم على الوجه الذي يرضي ربهم، الذي وعدهم بالجزاء الأوفر، وهو اللطيف بعباده، الخبير البصير بحالهم وأحوالهم، وقد ورد في الحديث الشريف «من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيوم ولدته أمه»، وأي جائزة أعظم وأفضل وأبرك من أن يعود المرء إلى ربه وخالقه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأينا - بربكم- خال من الذنوب والخطايا والآثام؟

اليوم وأنا أتحدث معكم عن «رحلة العمر» فقد عادت بي ذاكرتي إلى عدة أبيات من قصيدة تعد مدرسة في قصائد الشوق للأماكن المقدسة والحنين إليها، قالها الشيخ الشاعر عبدالرحيم البرعي، وجدتني أستعيدها مع أنسام أيامنا هذه التي تهب علينا فيها روحانية وطاعة وقدسية، عشر من ذي الحجة المباركة، أنشدها البرعي في زمن فات وقد فاضت أشواقه بأبيات حين رأى أنه أصبح على مقربة من المدينة المنورة، إلا أن المرض اشتد عليه وأقعده حتى فاضت روحه وذهبت إلى بارئها، قال فيها «يا راحلين إلى منى بقيادي...هيجتموا يوم الرحيل فؤادي / سرتم وسار دليلكم يا وحشتي...الشوق أقلقني وصوت الحادي / وحرمتموا جفني المنام ببعدكم...يا ساكنين المنحنى والوادي» إلى أن قال «بالله يا زوار قبر محمد...من كان منكم رائحا أو غادي / فليبلغ المختار ألف تحية...من عاشق متقطع الأكباد» وقيل إنه مات عقب الانتهاء من قصيدته رحمه الله تعالى.

في «رحلة الحج» التي تسمى «رحلة العمر» لأنه لا تعدلها رحلة في حياة الإنسان، لو أمعن المتأمل النظر في الأماكن المقدسة اليوم، وما لقيته من رعاية واهتمام من ولاة أمرنا، وما وجدته من تطوير وتنمية وجهود ضخمة، دفقت عليها ومن أجلها مليارات الريالات من أجل خدمة الحجاج ضيوف الرحمن، ومن أجل تهيئة المشاعر المقدسة، ومن أجل تسهيل حجهم، ثم يتذكر كيف كانت رحلة الحج قبل عقود من الزمن، حيث كانت تعد قصة من الشدة والمعاناة، وكيف أصبحت اليوم رحلة ميسرة، إذ غابت فيها كل أشكال المعاناة والمشقة وأحوال التعب التي عاشها الآباء والأجداد، سيجد أن الفارق أصبح كبيرا جدا، وأصبحت رحلة الحج متعة من المتع، نظرا لما توافر فيها من الخدمات التي عملت على تيسير رحلة الحاج، نتيجة للجهود العظيمة التي بذلتها بلادنا ولله الحمد، من منطلق أن هذا واجبها تجاه ضيوف الله، فسخرت أساطيل وحشودا من الخدمات والبشر في كل المجالات «مجال الصحة، في تأمين أمنهم، في الاتصالات والمواصلات والنقل، في مجال توفير المساكن وتحسين الخدمات المقدمة لهم، التي تقدمها كل المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، التي تضافرت عبرها جهود رجالات الدولة وفرق المتطوعين، وتحولت نحو تحقيق هدف واحد الجميع يتسابق نحوه ومن أجله وهو «خدمة الحاج»، وكل واحد في هذا البلد مسؤولا كان أم مواطنا عاديا، يرى وهو يقدم لضيوف الرحمن أي خدمة، أن هذا شرف قد منحه الله وفرصة لا يجب أن تفوّت سينال عليها الأجر وعظيم الثواب من الله عز في علاه، فلله الحمد من قبل ومن بعد، ولذلك كم يجدر أن نطلب من إخوتنا العرب والمسلمين وهم اليوم يقفون في صعيد واحد استعدادا لأداء نسكهم، وهم يشهدون بأعينهم ما تقدمه بلادنا من جهود لإراحتهم، أن لو توقفوا معنا عند كل المنجزات والأعمال التي تتوالى وتنفذ كل عام من أجل خدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين، ومنحونا فرصة في أن نخدمهم من منطلق أن هذا واجب السعودية حكومة وشعبا على أن يتفرغوا لعبادتهم وطاعتهم والتقرب من ربهم في تلك الأيام المعدودات، فكل السعوديين وفي مقدمتهم الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله- الذي تجرد كبقية إخوته الملوك -رحمهم الله- من كل الألقاب التعظيمية الدنيوية، وارتضى أن يكون لقب «خادم الحرمين الشريفين» هو اللقب الأقرب إلى نفسه كما هم الملوك السابقين، لايشغلهم في موسم الحج سوى خدمة الحجيج، حتى يعودوا سالمين غانمين، وقد ظفروا بالأجر والثواب من ربهم، وهو شرف يشعرون بأن الله قد منحهم إياه، وسيظلون يعملون من أجل خدمة ضيوف الرحمن حتى قيام الساعة، في صورة معبرة عن إحساسهم بمسؤوليتهم وبدورهم التاريخي الممتد في هذا الشأن، منذ أن استقر الكيان السعودي في وحدة وأمن وسلام وتضامن واتحاد بين مناطقه وقبائله تحت ظل قيادة واحدة، فنسأل الله أن يديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة ويرزقنا شكرها، وأن يمدنا بحوله وقوته كي نحفظ لهذه الدولة سلامها واستقرارها وأمنها، فهي دولة قامت على الكتاب والسنة وستبقى حامية لهما وبهما ستبقى قوية.