قبل أكثر من عقد جرى التحذير من (المنهج الخفي)، وها نحن الآن نسمي الأشياء بأسمائها لنكتشف أن هذا المنهج الخفي يقوده إخوان المسلمين والسرورية، تحت غطاء ما سمي (الصحوة)، وقد اكتشفنا أن هذا المنهج هيمن على التعليم، وكتب المثقفون في اختراق السرورية للتعليم عشرات المقالات، بل حتى الإعلاميين والفنانين قاموا بواجبهم عبر برامجهم الإعلامية ومسلسلاتهم الرمضانية في تعرية هذا المنهج، فما الذي فات المثقفين ورجالات الإعلام؟

ما فاتهم هو تغلغل منهج الإخوان والسرورية داخل جيوب القبيلة في بعض المناطق، ليصبحوا هم أصحاب النشاط والفاعلية والمتحدثين باسمها، محاولين بذلك اختطاف دور شيخ القبيلة ودور نواب القبيلة الرسميين والمعتمدين من قبل الدولة، ولهذا نجدهم يستخدمون القبيلة كحاضنة أخيرة لهم، فيمزجون الأجندة الإخوانية والسرورية في إثارة الرأي العام ضد الدولة، عبر خلط توجهاتهم السياسية بأعراف القبيلة ثم يخرجونها في إطار ديني وعادات (قبائلية).

أحياناً يفتئتون على نظام الدولة، فيسطرون بيانات براءة أو تحذير لإثارة الرأي العام في قضايا لا يجرمها النظام العام، بل تبقى في نطاق الحرية الشخصية التي كفلها النظام الأساسي للحكم، وعليكم تنشيط الخيال في ما لو استمعت الدولة لبعض من رفض افتتاح مدارس للبنات، وقام بالطعن في كل أسرة تسمح بدراسة بناتها، واستذكار الحجج الفارغة في خطورة تعليم البنات، وتخيلوا ما عاناه بعض أمراء المناطق في تبيئة مفهوم السياحة كأحد الاستثمارات الاقتصادية المهمة والتي تحسس منها بعض أبناء القبائل قبل عقود، كل هذا يعيدنا للمربع الأول حيال (المنهج الخفي) والذي تم كشفه على مستوى التعليم، ولم نتنبه له على مستوى القبيلة.

وهنا سأحكي بشكل مباشر عما أعرفه عن دور المطوع في القبيلة العربية الذي لم يتجاوز قبل الصحوة دور الإمامة في الصلاة وعقد الأنكحة، وتعليم الصبيان الصغار الأركان الأساسية لدينهم، الواردة في حديث الرسول الكريم (أفلح الأعرابي إن صدق)، وما عدا ذلك فليس (للفقيه) أي دور، ولهذا يوجد في بعض القبائل المثل الدارج (الفقيه لا يسيّف ولا يضيّف)، ويقصد بذلك أن المطوع ليس له دور في قرار السيف/الحرب ولا قرار الضيافة، بل يبقى القرار بيد شيخ القبيلة ونوابها، وقد استمر الأمر على هذا حتى جاءت الصحوة قبل ثلاثين عاما، فاخترقت جدار القبيلة بحدثاء الأسنان آنذاك الذين يزايدون على قضايا القبيلة بدعوى (الفهم الشرعي)، ليختطفوا القرار من الشيخ ونوابه، وتعيش القبيلة تحت رحمة هؤلاء لعقود مضت، فنجد القبيلة وقد تخلت عن فلكلورها الشعبي في مناسبات الزواج، واستبدلت مظاهر الفرح بمظاهر أقرب للعزاء، حيث المواعظ وتوزيع أشرطة الكاسيت لمشايخ الصحوة كجوائز ومناشط ابتدعتها الصحوة كنوع من الهيمنة على فضاء القبيلة والسيطرة عليه، حتى ما يسمى (الردودة) وهي إعطاء الضيوف خبرهم للمضيف، سيطر عليه الصحويون بخطب وعظية طويلة لا علاقة لها بتلقائية القبيلة وبلاغتها العربية في الاختصار والإيجاز.

استسلمت القبيلة لا شعورياً لهؤلاء، وما زالت في بعض مظاهرها تعيش ذاكرة الصحوة وتخاف الخروج عليها، متناسين العادات الأصيلة التي عاشوها قبل الصحوة، فالصحوة أعادت تعريف ما عاشه الأجداد بأنه جاهلية، وأن ما تعيشه القبيلة في عصر الصحوة هو الدين الحق والعادات الصحيحة، وما سبقها كان نوعا من الانفلات الأخلاقي الجاهلي، متناسين أن في امتداح الصحوة بهذه الطريقة والتمجيد لها هو طعن حقيقي في شرف أجدادهم وجداتهم، بينما الحقيقة أن إخوان المسلمين والسرورية ليسوا سوى (مسجد ضرار) يتكرر عبر التاريخ ومن حق صاحب الأمر هدمه كما فعل الرسول الكريم من قبل.

يجب على القبيلة نفي الخبث عن نفسها، والابتعاد عن كل من يريد امتطاءها لأجندة صحوية إخوانية سرورية، واستعادة هويتها المتسامحة القائمة على قيم العمل والإنتاج والتكافل، فمعايير القبيلة لا تقوم على شكلانية في الثوب واللحية، فشوارب الشاعر الفارس محمد الأحمد السديري أرفع وأعز عند القبيلة العربية من لحى شيوخ الصحوة أجمعين، فالقبيلة العربية قامت على مكارم الأخلاق (التكافلية) من كرم ومروءة ونخوة وشهامة وسمو نفس... الخ مما امتلأت به كتب المرويات الشعبية عن أمجاد الأجداد والجدات رجالاً ونساء في سباق مكارم الأخلاق وأعلاها التسامح، بل وصل الأمر بالقبيلة العربية الأصيلة إلى أن تسمي بعض أسرها باسم امرأة كدلالة تاريخية تمتد إلى ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة عن سيادة المجتمع (الأمومي)، ولهذا نجد في جنوب جزيرة العرب الملكة بلقيس، وفي العصر الإسلامي (الملكة أروى الصليحية) التي دعي لها عبر منابر الجمعة، أما في شمال الجزيرة العربية كانت الملكة زنوبيا.

القبيلة العربية استطاعت الحفاظ على قيمها، والمرأة رفيقة الرجل فرحاً وترحاً في الحقل والسوق والأعياد، وحتى ما هو أقرب للخطر وأبعد عن الأمن كالمعارك، كما في حكاية غزالة الشيبانية مع الحجاج، بل وقصص الحب مع قصائد الغزل العفيف تشهد على ذلك، ليأتي أحفاد هؤلاء وقد اقتنعوا بأفكار الصحوة، ليطعنوا في شرف أنفسهم إذ يطعنون في شرف جداتهم، فقد يقول لك ابن قبيلة صفيق: (أجدادنا قبل الصحوة رجالاً ونساء كانوا في جاهلية وقلة انضباط أخلاقي)، ولهذا من حق كل ابن قبيلة أصيل أن يقول للمتعاطفين مع الصحوة: تحدث عن جدك وجدتك، أما نحن فقد عرف أهلنا الشرف والمروءة والعفة قبل أن توجد الصحوة.

القبيلة يجب أن تحذر من قيادات المنهج الخفي داخلها، فكل ما تقوم به الدولة في رؤية 2030 هو استعادة للهوية الطبيعية لهم كشعب يفرح ويرقص ويطرب مثل كل الشعوب ويعشق كرة القدم مثل كل الشعوب، بل ويسافر لمشاركة العالم أفراحه مثل كل الشعوب، وكل منهج خفي يجعل القبائل تزايد على توجهات الدولة في مناشطها وتوجهاتها فعلى القبيلة البراءة منه كما تتبرأ من داعش والقاعدة، فمن أقنع أبناءنا قبل عقود أن القيام للسلام الملكي حرام، هو نفسه من يريد الحفاظ على آخر أوكاره المختبئة في صفوف القبيلة ليتحدث باسمها.

ختاماً قبلة على جبين كل شيخ قبيلة ونائب عشيرة يعيش هموم دولته وطموحاتها، أجدادكم بايعوا الموحد قبل أن يوجد البترول وها أنتم الآن ترون أبناءكم وبناتكم مبتعثين ومبتعثات في أرقى جامعات العالم من فرنسا وألمانيا وإلى بريطانيا وأميركا واليابان والصين وأستراليا، فكونوا بحجم الطموحات فما من بيت وبر ولا مدر من قبيلة ولا طائفة ولا عرق إلا وشمله مشروع الابتعاث العظيم، شكراً جلالة الملك المعظم وولي عهده المفدى، شكراً يليق بحجم طموحاتكم في التنمية البشرية التي تسير قافلتها والكلاب عادتها النباح، أما الثعالب فتمثل دور الميت وهي حية.

القبيلة العربية حافظت على قيمها، والمرأة رفيقة الرجل فرحاً وترحاً في الحقل والسوق والأعياد، وحتى ما هو أقرب للخطر وأبعد عن الأمن كالمعارك، بل وقصص الحب مع قصائد الغزل العفيف تشهد على ذلك.