أحياناً تجول بخاطري أفكار، أحاول من خلالها تأطير بعض المشاهد التي ألحظها في عالم الأعمال، وليست كل المشاهد مثالية، فهذا هو الواقع الذي قد لا يتفق، بالضرورة، مع النسق العلمي، والأمثلة كثيرة، والوقوف عندها مدعاة للتفكير، وهو الخطوة الأولى للتصحيح، فتشخيص الواقع شرط ضروري، وربما كافٍ، لتحديد مواطن الخلل والشروع بعد ذلك في رحلة الإصلاح الطويلة. والإصلاح النَّافذ هو ذلك الذي يتسم بالتفاعل ويرسي مفاهيم الاستدامة التي تقوم عليها التنمية الحقيقية للأعمال، وللاقتصاد ككل.

وقد وقفت كثيراً عند نتائج دراسة أجريت على العاملين في منشأة كبيرة، وهدفت إلى معرفة أهداف العاملين فيها، وما يسعون إلى تحقيقه من خلال عملهم. وقد أسفرت نتائج الدراسة عن أن النسبة الكبرى من هؤلاء العاملين لا يدركون ما هو الهدف من عملهم في هذه المنشأة، مشيرين إلى أن ما يهمهم هو حصولهم على مرتبات يرون أنها تكفيهم وتوفِّر لهم معيشة كريمة وحياة طيبة.

وعندما تداول مجلس إدارة هذه المنشأة نتائج الدراسة، واسترجعوا الإستراتيجية التي وضعها المجلس للعاملين فيها، والتي شملت خلق بيئة عمل تهدف إلى ارتقاء العاملين بها ومشاركتهم الفاعلة في تحقيق أهداف المنشأة، وتفعيل إسهامها في الاقتصاد الوطني ودورها في المجتمع؛ شرع أعضاء المجلس في بحث أسباب انفصام العاملين في المنشأة عن هذه الأهداف الإستراتيچية التي اعتبروها مثالية تعكس مفاهيم الإدارة ومصلحة الاقتصاد، والمجتمع بالضرورة، مع اعترافهم بأن المنشأة تحقق أرباحاً مجزية، وأن هؤلاء العاملين من أسباب هذا النجاح.

وقراءة نتائج مثل هذه الدراسة تطرح عدة تساؤلات، تصبُّ في النهاية في سؤال كبير، ماذا يمكن لمجلس الإدارة أن يفعل؟ هل يمكن أن تكون هناك إدارة بلا أهداف؟ هل الركون إلى النتائج المالية لمنشأة اقتصادية هو الحكم والفصل في نجاحها؟ أم أن هناك ثمَّة معايير اقتصادية أو أخلاقية يمكن أن ترسم معالم حُكمٍ منطقي لمثل هذه الحالة؟

هنا تتفرع من هذه الأسئلة قضايا إدارية تتعلق بماهية الإدارة نفسها، وهل هي مسألة علمية تخضع لأبجديات وأدبيات علم الإدارة، أم أنها مسألة تتعلق بسلوكيات العاملين؟ وهي قضايا لم يغفلها من كتب في الأبعاد الاجتماعية لمحيط ومناخ العمل، وسلوكيات العاملين؛ في مقابل المفهوم العلمي للإدارة، وهل هي علم أم فن، أم أنها مزيج بينهما؟ وهل الإدارة هرمية أم أنها أفقية، وما هي طبيعة العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وهل يمكن تفسير هذه العلاقة بالأجور دون اعتبار لغير ذلك من العوامل والمؤثرات؟

قد لا تكون هناك إجابة واحدة لفك شفرة ورموز هذه القضايا، بحكم أنها ترتبط، في المقام الأول، بهذا الإنسان الذي تتجاذبه عوامل كثيرة تحدد اهتماماته، وهي، بالضرورة، تختلف بين شخص وآخر، وتتباين، مهما حاولنا أن نؤطرها في نظرية علمية، فكل نظرية لا يمكن أن تعكس الواقع، لأننا في بناء أي نظرية علمية نستبق البناء بفرضيات قد لا تتحقق على أرض الواقع، وهذا هو الواقع الذي يحفِّزنا دائماً على التفكير.. والتفكير.

ماذا يمكن لمجلس الإدارة أن يفعل؟ هل الركون إلى النتائج المالية لمنشأة اقتصادية هو الحكم والفصل في نجاحها؟ أم أن هناك ثمَّة معايير، اقتصادية أو أخلاقية، يمكن أن ترسم معالم حُكمٍ منطقي لمثل هذه الحالة؟