(حرية التفكير) عبارة يقرؤها الشخص ويظن أنها الشيء الوحيد الذي لا يمكن السيطرة عليه، فنعيد تذكيره بأن (حرية التفكير) شيء مختلف عن (حرية الضمير)، التي لا يمكن السيطرة عليها إلا بشكليات تصنع منافقين فقط ينخرون في جسد الأيديولوجيا الشمولية، والنازية والستالينية أفضل نموذج لمن يريد معرفة مآل من يحاول الهيمنة على الضمير.

أما حرية التفكير فالخلاف حولها لا علاقة له بالضمير بقدر ما له علاقة بين مدرستين: إحداهما تؤكد أن (الحياة من حولنا تتقرر بناء على الوعي الذاتي)، ومدرسة تكذب هذا وتؤكد أنها مجرد خدعة مع الذات، فالحقيقة أن (الوعي الذاتي يتقرر بناءً على الحياة من حولنا)، ولهذا فالحياة الفقيرة تصنع وعياً فقيراً، والحياة الغنية تصنع وعياً غنياً، والمقصود بعبارة (حياة غنية) أمر مختلف عن (معيشة غنية)، فبإمكاننا توفير (معيشة غنية) يوجد فيها أفخر ما تحتاجه الثدييات البشرية من مأكل ومشرب ومسكن ووسيلة نقل، ولكنها (حياة فقيرة) من المكتبات والمسارح والفنون والمتاحف والجمال والشعر والإنسانية، وقد يكون العكس، فتكون الحياة غنية جداً بكل ما هو إنساني، والمعيشة طبيعية وعادية في مأكلها ومشربها ومسكنها ووسيلة نقلها، ولهذا تركز الدول الراقية على (جودة الحياة) لأن بها يكتمل المعنى الإنساني، أما (جودة المعيشة) فيركز عليها أصحاب المزارع الحيوانية لدوابهم في أستراليا وغيرها.

نعود لحرية التفكير التي يتوهمها الشاب لمجرد أنه يمتلك جوالا وشبكة نت، ولكنه عاجز عن إدراك السجن الفكري الذي في رأسه، ولهذا قيل (من السهل أن تُخرِج الإنسان من العصر الحجري، ولكن من الصعب أن تخرج العصر الحجري من رأس إنسان)، فحرية التفكير مهارة يتعلمها الإنسان مع الوقت، كما تعلم الزنوج معنى حريتهم في أميركا التي تفاجؤوا بها بعد رق العمل عند أسيادهم في الحقول وتنظيف المنازل، ليقطعوا شوطاً طويلاً مع الحرية على (مستوى المعيشة) التي تركض وراء اللقمة والمأوى، وصولاً إلى (مستوى الحياة) التي تحتفل بالنجاحات المعنوية للسود نساءً ورجالا، لتصبح توني موريسون أول كاتبه أميركية سوداء تفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 1993.

حرية التفكير ليست جوالا وشبكة نت، بل هي قدرة ومهارة ومران يومي على (التفكير النقدي)، فبغير التفكير النقدي لن يتحرر الإنسان من أغلاله الخاصة التي تكبل حرية تفكيره، والتفكير النقدي عبارة عن ركنين (نزعة ومهارة)، فالمهارة يمكن إثارتها بالتعليم فيكتسبها البعض من خلال دراسته مثلاً لمادة الفقه المقارن، أو دراسة علم الاجتماع، أو حتى الرياضيات البحتة، ولكنها تبقى مجرد مهارة يمارسها الدارس على تخصصه ويعجز عقله عن تلقيحها بالنظر في مجالات حياته الأخرى، ما لم يمتلك النزعة أو الملكة الفطرية لنقد الذات أولاً والمحيط ثانياً، قد يسميها البعض (شجاعة نقد الذات)، لكن ما أكثر الجبناء اللاإراديين (خوف لا إرادي).

حرية التفكير مشوار طويل من فك الأغلال الاجتماعية التي تجعل أحدنا يصنع أزمة اسمها (تكافؤ النسب) بسبب قبيلة أو عشيرة مجاورة، ولكنه يتجاهل هذا الشرط إذا تزوج من جنسية أخرى في بلدان بعيدة!. حرية التفكير مشوار طويل من فك الأغلال العقائدية التي تجعل أحدهم يقتل ابن عمه لأنه يرفض الدعاء بهلاك أهل الكتاب وعقم نسائهم، بينما يجوز له في نفس ديانته الإسلامية أن يتزوج من أهل الكتاب ليصبحوا أرحامه وخؤولة أولاده منهم. حرية التفكير على المستوى السياسي مشوار طويل من فك الأغلال التي تجعل أحدنا يعادي بلده لأزمات يفتعلها باسم الديمقراطية والحرية، دون أن يكلف نفسه عناء قراءة كتاب موضوعي واحد عن تاريخ إقليمه العربي الواسع، وكتاب موضوعي واحد عن تاريخ دولته ونشوئها، ونضالات الأجداد مع جدلية التاريخ لتقوم هذه الدولة بهذه المساحة، وفي كل عقد، ومع كل ملك، يصبح البناء أكبر ومعنى الأصالة والحداثة أكثر اتساعاً ورحابة من ظروف الزمن الصعب، فأصالة الأجداد على ظهور الدواب لا علاقة لها بأصالة الأحفاد على متن الطائرات والسيارات، لتصبح الأصالة معنى في الروح، وليس جموداً شكلياً كجمود الآميش على أكواخهم الخشبية ودوابهم في وسائل النقل.

حرية التفكير مشوار طويل مع الذات تفك قيودها، فمنذ الميلاد يصبح الرضيع قيداً في سجلات المواليد ثم مناسبة الطقوس بعد الولادة ليصبح قيداً في سجلات القبيلة، والمذهب حسب صدفة الجغرافيا في المكان، ثم طفلاً ينحني لكل بقرة يراها في الشارع ويفسح لها في الطريق، كدليل على قيود القبيلة والديانة، ثم مهندساً قادماً من الهند بلد الديانات الكثيرة والطقوس الأكثر، يحمل معه صنماً صغيراً يرجو منه المساعدة في كل اختبار يؤديه في أفضل جامعات الدنيا، فيتفاجأ بأن دراسته في أرض فرنسا، ليرتطم بمعنى الحرية الذي يراه فجَّاً في شاطئ العراة، ولا يرى فجاجة نفسه وهو من مؤيدي التحرش بمن تلبس الجنز والقميص في بلده، بدلاً من شال تلفه على جسدها لا يستر البطن والظهر، لكنه سجين عادته فكيف يمتلك حرية التفكير. ينتقد الفرنسيين على ضعف الروابط العائلية في باريس العاصمة، غافلاً عن روابط الأسرة التي تشبه أسرته لكنها هناك في الريف الفرنسي، وأن ما يراه في باريس يوجد مثله في عاصمة بلده نيودلهي بأشكال وألوان أخرى، لكنه عاجز عن حرية التفكير لتفكيك تلك الألوان والأشكال وتقاطعاتها الإنسانية حتى في بيته مع بيوت الفرنسيين. يعود إلى بلده يمارس أقوى نقد في هندسة المدن لأنها مهارة تعلمها، لكنه عاجز عن نقد مئات الظواهر الاجتماعية التي تحاول الهند التخلص منها وتعوقها عن النهضة الحضارية التي تحاولها، وقد قطعت فيها شوطاً يجعلها خلال أقل من عقدين في مصاف الدول الكبرى، والهند تستحق ولكن ما زال ابنها الهندي وقد تجاوز الخمسين يفسح الطريق للبقرة حتى ولو تأخر عن عمله، فالبقرة أولاً وهو ثانياً، متناسيا المعنى الإنساني الذي يتناساه المسلم الهندي في نفس البلد، إذ يقاتل مواطنه الهندي الهندوسي بسبب جدار بسيط بينهما، لترى فتنة طائفية قد تسفك فيها الدماء، نلوم فيها المسلم إذ ينسى أن حرمة الدم عند الله أعظم من الكعبة، وقد هدم القرامطة الكعبة، وبقي الإسلام قائماً بأهله حتى عادت كما كانت، ولكن الدماء التي سفكت والأرواح التي قتلت لن تعود. فهل يدعي شاب أنه يعيش (حرية التفكير) لأنه يمتلك جوالا وإنترنت، أم يعيش (وفرة المعلومة)، لكنها معلومة هشة ورخوة وسائلة، ليخرج البدوي من خيمته عبر جهازه الجوال فيتابع حياته نفسها على الإنترنت، ليتأكد لنا كذب من قال (الحياة تتقرر بناء على الوعي)، وصدق من قال (الوعي يتقرر بناء على الحياة)، لأن ابن هذا البدوي منذ التحاقه بأرامكو كمنظومة (حياة) اقتصادية واجتماعية وفكرية أعطته لباديته وإبله ما لم يخطر له على بال، ولو عاش بالجوال والنت لوحده عشرين عاما قادمة، فلن يتجاوز مطاردة بولها للعلاج وهو أثناء المطاردة يستمع عبر جواله لشيلات تطربه.

مشوار طويل من فك الأغلال الاجتماعية التي تجعل أحدنا يصنع أزمة اسمها (تكافؤ النسب) بسبب قبيلة أو عشيرة مجاورة، ولكنه يتجاهل هذا الشرط إذا تزوج من جنسية أخرى في بلدان بعيدة