صنع القنبلة النووية وحده لا يكفي لتكون ذات فاعلية، فامتلاك القنبلة شيء، وآلية توصيلها للهدف وتفجيرها شيء آخر، فإن لم تكن لديك آلية فعالة لتوصيلها إلى المواقع المستهدفة، فلا فائدة من امتلاكها.

هناك آليتان لتلك المهمة، الأولى حمل القنبلة النووية بطائرة ثم إلقاؤها من ارتفاع معين لتصل إلى الهدف بفعل الجاذبية، كما حصل في هيروشيما وناجازاكي، ولكن هذه الآلية غير فعالة في هذا العصر، وذلك للتقدم التقني الحاصل في الدفاعات الجوية للدول.

الآلية الأخرى هي عن طريق حمل القنبلة بصاروخ (كرؤوس نووية) وإطلاقه على الدولة الهدف من خارجها، وهناك نوعان لتلك الصواريخ، النوع الأول الصواريخ الباليستية (المقذوفات)، كصواريخ سكود أو شهاب، وفيها تُحمَّل المواد النووية في رأس الصاروخ الذي يخترق الغلاف الجوي صاعدا، ليعود ويدخله ثانية باتجاه الهدف، متخذا مسارا منحنيا، مما يجعل مداها كبيرا، وتصبح عابرة للقارات، ولكن دقتها تكون منخفضة واحتمالية اعتراضها عالية.

النوع الآخر من الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، هي الصواريخ الجوالة (تعرف باسم كروز) وأشهرها التوماهوك، وهي صواريخ موجهة تسير على ارتفاعات منخفضة، وبها نظام دفع ومحرك نفاث مزود بنظام ملاحة، وتتميز عن الباليستية بدقة الإصابة وإمكانية المراوغة، ولكن مداها محدود في نطاق 2500 كلم، والسبب هو كمية الوقود المحدودة، فلو أمكن إيجاد وقود يدوم أطول أو نظام طاقة دائم، لبقي هذا الصاروخ يجوب الأرض بلا توقف، متجنبا الدفاعات الجوية، وهذا ما يعمل عليه الروس منذ فترة غير معلومة، من خلال تطوير الصاروخ الجوال المعروف عند الروس باسم طائر النوء (Burevestnik) أو سقوط السماء (Skyfall) كما يسميه الغرب.

ولكن تطوير وصنع هذه الصواريخ في الولايات المتحدة وروسيا محظور منذ عام 1987، عندما أبرمت الدولتان معاهدة حظر الصواريخ النووية متوسطة المدى (بين 500 و5500 كلم) والمعروفة باسم (INF)، والتي انسحبت منها الولايات المتحدة مطلع الشهر الجاري بسبب خرق الروس المتكرر لها، كما جاءت في التقارير السنوية الخاصة بالالتزام والامتثال لاتفاقيات وتعهدات الحد من الأسلحة، وحظر الانتشار ونزع السلاح، الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية وهي متاحة في موقعها الإلكتروني.

قد لا يكون الروس هم السبب الرئيس للانسحاب، فالخبير الإستراتيجي البروفيسور هيو وايت يرى أن السبب الرئيس خلف الانسحاب الأميركي هو الصين، فالصين ليست طرفا في المعاهدة، وخلال الثلاثين سنة الماضية التزمت أميركا بعدم تطوير وإنتاج الصواريخ النووية متوسطة المدى، بينما قامت الصين بتصنيع وإنتاج وتطوير عدد من هذه الصواريخ، مما جعل الصين متفوقة على أميركا في هذا الجانب، وهذا ما لا يريده الأميركان، وفي ظل المعاهدة لن تستطيع الولايات المتحدة تطوير هذا النوع من الأسلحة، فكان لخرق روسيا المتكرر للمعاهدة ذريعة للخروج منها، والبدء في تطوير الصواريخ متوسطة المدى، وقد أعلنت الولايات المتحدة البدء الفعلي بهذا الاتجاه بعد الانسحاب مباشرة، فقد تم اختبار أحد هذه الصواريخ بعد أسبوعين من الخروج من المعاهدة، فرضية وايت يؤكدها تصريح الرئيس الأميركي أن الصين يجب أن تكون ضمن أي معاهدة قادمة لحظر الصواريخ المتوسطة.

كما أن الانسحاب الأميركي من المعاهدة أعقبه بأيام انفجار في مدينة نينوكسا الروسية، تسبب بمقتل 7 أشخاص.. السلطات الروسية اكتفت بالقول إن الانفجار ناجم عن اختبار نوع من الوقود السائل الذي يعمل بمواد مشعة، ولكن عدد من الخبراء أكدوا أنه ناجم عن اختبار لصواريخ سقوط السماء، وقد استعان جيفري لويس مدير برنامج منع انتشار الأسلحة النووية في شرق آسيا في مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار، بصور الأقمار الصناعية التي بينت وجود المنصات المخصصة لإطلاق هذا النوع من الصواريخ في موقع الانفجار ذلك اليوم، وهو ما أكده الرئيس الأميركي ترمب في تغريدة له.. بعض الخبراء ذهب إلى وجود مفاعل نووي صغير للعمل على تزويد الصاروخ بالطاقة، ليعمل بلا توقف، وذهب فريق آخر إلى تطوير الروس بطاريات نووية مخصصة لهذه الصواريخ.

أيا يكن، لا أحد يستطيع الجزم بماهية هذا الصاروخ أو المواد التي يحتويها، فهناك تكتم شديد من السلطات الروسية، لكن الارتفاع في مستوى الإشعاع الذي رصد بعد الانفجار يدل على وجود مواد مشعة في الصاروخ، استخدمت بشكل غير مفهوم، فقد وصل مستوى الإشعاع في مدينة سفرودفنسك المجاورة 1,78 ميكروسيفرت في الساعة بعد الانفجار، حسب وكالة مراقبة الطقس والبيئة الروسية، أي أكثر من الطبيعي بـ16 مرة تقريبا، وعلى العموم يظل هذا المستوى أقل من أخذ أشعة سينية بالمستشفى، وبالمقارنة مع تشرنوبل كان مستوى الإشعاع أكثر من الطبيعي بـ7000 مرة، ولكن مدينة سفرودفنسك تبعد أكثر من 45 كلم من موقع الانفجار، مما يعني أن مستوى الإشعاع هناك أكثر بكثير من هذه القيمة.

على أي حال، الانسحاب من المعاهدة يعتبر بمثابة إعلان سباق تسلح، وحرب باردة جديدة، ليست بين أميركا وروسيا فقط، وإنما الصين أيضا، وقد بدأت بوادرها مبكرا، نتمنى ألا تطول، وألا تؤدي إلى توتر الأوضاع في هذا العالم، فما يحتويه كوكبنا الآن من أسلحة نووية كافٍ لتدميره عدة مرات.