منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أشاهد عددًا من المقاطع والصور لشبان يظهرون مخفين وجوههم خلف أقنعة غريبة مقززة، في سلوك دخيل على مجتمعنا وثقافتنا يثير الرعب في قلوب الشيوخ والأطفال، ويعرض صورة لوجه قبيح ومريب.

ربما قصد أولئك الشبان التخفي خلف تلك الأقنعة هرباً من النقد والتعييب عليهم خاصةً فيما قصدوه في إعلانات تجارية لبعض المنتجات، فصار الإعلان منفراً أكثر منه جاذباً!.

وكون هذه الأقنعة الغريبة منفرة لارتبطها تاريخياً بالحروب والدسائس وأعمال الشر!.

فمن الأقنعة التي عُرِفت وراجت منذ القدم قناع «ابن آوى» الذي ظهر قبل ألفي عام في الحضارة المصرية القديمة، حيث كان الكهنة يرتدون قناعاً على شكل رأس حيوان ابن آوى أثناء طقوس التحنيط، والذي كان يعكس رمزاً إلهياً لدى الفراعنة. كما كان المملوكون يُجبَرون في القرن السابع عشر والثامن عشر على ارتداء أقنعة حديدية في محاولة منعهم من أكل المحاصيل من قبل ملاك الحقول.

وانتشر قناع عرف باسم القسيس «ألكسندر بيدن» الذي ارتداه هرباً من السلطات ونجح بالفعل في ذلك مدة عشر سنوات قبل أن يُلقى القبض عليه.

أما البريطانيون فقد لبسوا الأقنعة في الحرب العالمية الأولى في محاولة منهم لحماية وجوههم من الإصابات. وأما «قناع هنايا» فهو قناع يعكس وجه الشيطان، وعرف في الثقافة اليابانية كتعبير عن المرأة السيئة.

وظهر القناع كرمز يجسد وجه الشيطان في التقاليد الإيطالية في فيلم «الأحد الأسود». ولعل القناع الأشهر في التاريخ هو قناع «غاي فوكس» الذي خطط لاغتيال ملك إنجلترا جيمس الأول في سنة 1605م، والذي نال شهرة واسعة بعد تحويل قصة صاحبه غاي فوكس إلى فيلم سينمائي، حيث صنع غاي فوكس قناعًا في تلك الحادثة عُرِف باسم قناع «فانديتا» وارتداه لأول مرة، وفانديتا كلمة يونانية الأصل تعني الانتقام، وعلى الرغم من انتشار القناع في فترة متأخرة إلا أن تاريخه يعود إلى سنة 1605م، وهي السنة التي ظهر فيها «غاي فوكس».

في الأدب، القناع يعد مصطلحًا مسرحيا أساسًا، ثم دخل بعد ذلك في عالم الشعر، حيث صار في الشعر العربي الحديث إحدى أدوات الشاعر التي يستعين بها - أحيانًا - في تشكيل نصه الشعري من خلال النظر إلى التراث العربي، واستحضار شخصية تاريخية قادرة بما ارتبط بها من دلالات ومواقف، أن تضيء تجربة الشاعر، وتمكنه من التعبير عن المواقف المختلفة التي يعيشها في عصره، فهو يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل الشخصية تنطق بلسانه، وهو بذلك يسعى إلى توصيل ما يريده بسهولة إلى القارئ. استخدامُ القناع في الشعر يضفي على النص الشعري تشويقًا، ويكون قابلًا للتأويل والتحليل.

ظهرت الإشارة الأولى للقناع كأسلوب تعبيري في الأدب العربي الحديث فقد كانت إشارة إلى دلالته، وجاءت مكتوبة على غلاف مجموعة الشاعر «أدونيس» الشعرية الموسومة «أغاني مهيار الدمشقي»، وعند ظهور كتاب «تجربتي الشعرية» للشاعر عبدالوهاب البياتي أصبح القناع مصطلحاً أسلوبياً يشير إلى الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردًا من ذاتيته، يعد البياتي رائد القناع سواءً من حيث تحديد مصطلحه الدقيق أو من حيث استخدامه في شعره. ويعتبر بدر شاكر السياب أيضا من رواد القناع وذلك من خلال عدة قصائد له اعتمدَ فيها على تقنية القناع مثل: قصيدة «المسيح بعد الصلب» التي قالها في سنة 1957، وعدها بعض النقاد أولى قصائد القناع في الشعر العربي الحديث. جذبت هذه الظاهرة النقاد والدارسين، فظهرت دراسات عدة اهتمت بها، ويعد كتاب «قصيدة القناع في الشعر العربي المعاصر» 1999م لعبدالرحمن بسيسو، عند النقاد من أفضل الكتب التي تناولت ظاهرة القناع في الشعر العربي الحديث، بينما كان الرائد فيها هو إحسان عباس في كتابه «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» حيث تكلم عن «الرمز الكبير» كرديفٍ للقناع.

وأبرز شعراء هذه الظاهرة عندهم هم: السياب، البياتي، البردوني، أدونيس، محمود درويش، وغيرهم. طريقة تفكير الإنسان والظروف المحيطة به هي ما تشكل شخصيته، وقد تقوده أحيانًا للهروب أو التخفي خلف القناع، وهو ما أتمنى بأن يستبدله القاصدون بوجوههم الحقيقية النقية ظاهرة بنظرات حانية مرهفة وابتسامات ساحرة صادقة.