لم يعد التنين حذرا في تحركاته على الملعب العربي، ولم تعد سياساته محدودة على الجانب التجاري والاقتصادي فقط، بل تعداها إلى السياسة الشاملة، جاعلا من التجارة والدبلوماسية والتعاون العسكري مرتكزات سياساته المالية، وتوجهاته المستقبلية، متجاوزا بذلك الكثير مما كان يعتبر حواجز يستحيل تجاوزها.

النزعة الأيديولوجية القديمة لصين (ماو تسي دونج)، التي انحازت بشكل واضح لدعم الحركات التحررية في المنطقة، ودعم الأنظمة ذات التوجه الشيوعي بشكل صريح، لم تعد قائمة اليوم، بل حل محلها نظرية جديدة صارت الصين بواسطتها تتعامل مع الأنظمة بغض النظر عن أيديولوجيتها، مستندة على رأي لعرّاب النهضة الصينية الحديثة الراحل (ديينج شياو يينج) الذي قال، إنه لا يهتم فيما إذا كان لون القطة رماديا أم أبيض، ما دامت قادرة على اصطياد فأر.

إذا لا يهم لون النظام طالما يمكننا عقد تفاهمات واتفاقات مفيدة معه، لم يعد الصينيون مهتمين بهكذا ألوان، إلى درجة أن مواقفهم من كثير من الأحداث في منطقتنا تبدو بلا لون ولا اتجاه.

بالإضافة لتجاوزها عقبة الموروث الأيديولوجي، تتغلب الصين بذكاء وبالتدريج على عائق السيطرة الجيوسياسية المطلقة للولايات المتحدة، التي امتدت طوال العقود الماضية، فدور الصين يتنامى كلاعب جيوسياسي مؤثر في المنطقة، مع حرصه على عدم تكرار تجربة (أثينا- إسبرطة)، التي تلخص تصادم قوتين إحداهما صاعدة والأخرى مسيطرة، لذا نلاحظ الكثير من الصيغ التشاركية في الخطاب الصيني الذي يحرص على الابتعاد عن لغة الأنا، في الوقت الحالي على الأقل، حتى لا يبدو مشروعه وطموحه، كما لو كان مجرد منافس أو خصم للمشروع الأميركي، لهذا نجد تبني الصين لرؤية (التناغم الدولي والمصالح المشتركة) لتدين، ولو ضمنيا، اللغة الاستعلائية للسياسة الأميركية القائمة على مبدأ (مصالح أميركا فقط)، والتي جعلت من النفط الحبل السري الوحيد الرابط بين أميركا والخارطة العربية، وبالتالي نجد شينج جينج بينج، الرئيس الصيني الحالي، يردد مقولة (الحلول المربحة للجميع)، في كل مناسبة تحضر فيها العلاقات العربية الصينية.

تتجه الصين إلى المنطقة العربية تحت تأثير احتياجاتها المتزايدة لإمدادات الطاقة والمواد الخام، بما يتناسب والنمو المتسارع للاقتصاد الصيني، وفي حين يدفعها مبدأ أمن الطاقة، الذي يعدّ أمنا قوميا عالي الحساسية في الجانب الاقتصادي، نحو رقعتنا الجغرافية، تحمل معها أسلحتها المتمثلة في الفائض المالي الكبير، الذي تحرص على استثماره في مشاريع ذات كثافة عُمالية، باعتبار هذه المشاريع أسرع أثرا في اقتصاد الدول الشريكة، ومعها أيضا فائض الخبرات والتكنولوجيا والرغبة العربية في إيجاد شريك أكثر تفهما، وأقل استعلائية خاصة بعد المواقف الترمبية الانتهازية الأخيرة، بحق الدول النفطية في المنطقة، بالإضافة إلى حاجة بلدان كاليمن وسورية وليبيا لتجاوز مرحلة ما بعد الحرب، التي لن تكون أبدية حسب التعبير الصيني الدارج.

وبقليل من الملاحظة نرى أن الصين تتجنب التركيز على العوامل التي يركز عليها الغرب، والجانب الأميركي بشكل خاص، ففي حين يتمحور الدور الأميركي حول قضية الأمن، وما يترتب عليه من تدخلات وتجاوزات عسكرية، يركز الجانب الصيني على مبدأ التنمية كمحور رئيس لتحركاته الحالية.

ففي الوقت الذي تُبنى قواعد عسكرية أميركية في أكثر من مكان على هذه الرقعة، تتجه الصين إلى الاستثمار في المطارات والموانئ، مع حرصها على الحصول على بطاقات عبور عسكرية كما حصل معها في جيبوتي مثلا، ويتحرك الفريق الصيني بناء على قناعاته بأن الدور المستقبلي على هذه الجغرافيا صيني أكثر، فمن وجهة نظره أن واشنطن حاليا عالقة في الصراعات الوقتية، بما يجعلها ضعيفة أكثر للعب دور أكثر تأثيرا في المستقبل، وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع وجهة النظر الصينية هذه، إلا أنه يجب علينا الإيمان بحتمية الصعود الصيني وحتمية تأثيره المستقبلي في المنطقة، وما يتطلبه هذا الواقع منا هو دراسة كيفية الاستفادة منه كما يجب، مع الحرص على عدم الوقوع في فخ الارتهان الذي طالنا على مدى عقود النفط، ومع إيماننا بأن الدور الصيني المستقبلي سيكون إيجابيا إن أحسنا استغلاله، إلا أن هناك كثيرا من القضايا التي سيؤدي إغفالها إلى نتائج عكسية، لعل أبرزها (الإغراق التجاري)، الذي بدأت ملامحه مبكرا، وقد يصبح أكثر تأثيرا إن لم يتم تنظيمه وتقنينه.

يلزمنا التخلص من فوبيا الشرق التي تحرص الأنظمة الغربية على نفخ روحها بداخلنا بين فترة وأخرى، بحيث تنتظم العلاقات الصينية العربية المستقبلية على أسس الفائدة للجميع، بعيدا عن التدخلات في تشكيل السياسات الداخلية للبلدان.