عندما انطلق صوت المثقف بعد ثلاثين عاما من الكبت، تتفاجأ بأحد المهتمين بالشأن الثقافي، وقد يكون صحويا سابقا، قائلا: المثقف يشبه الصحوي فما الفرق بينهما؟

ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي توجيه خطابين أحدهما للمثقف نفسه، والآخر لمن يرى أي تشابه بين المثقف والصحوي، فبالنسية للمثقف نقول له: اخرُج من تقاليد غرامشي في دعاوى (المثقف الملتزم)، فالالتزام لا يقتضي ادعاء امتلاك الحقيقة، فكل لغة قطعية تطرح بها آراءك بدعوى (الحجة العلمية) تجعلك في نفس الخانة التي كان يطرحها (الصحوي) بدعوى الحجة الدينية، فالصراع بين المثقف والصحوي لا يصح أن يكون صراعا على الحقيقة التي تتحول إلى صراع أيديولوجي بين الفيزيقا والمتيافيزيقا، بل يجب على المثقف أن يتجه إلى (التفكير النقدي) ومحاولة تمكين المجتمع من امتلاك أدواته وفق معطيات تخرجهم من الأمية الثقافية التي كان يستثمرها الصحوي في استغفال العقول، بمخدر الخطاب الوجداني.

على المثقف أن يكون واعيا بأدوات الصحوي فيمارس النقد الفكري لها، ليظهر للناس كيف أن أدوات الصحوي لا تصمد أمام النظر العقلي والمنطق الطبيعي للأشياء، فالخلاف مع الصحوي ليس خلافا شرعيا، بل خلاف فكري، فالصحوي يلوي النصوص ليشوه بها النظر الطبيعي للحياة، والمثقف يفك هذا الالتواء ليعيد النص إلى واقعته التاريخية من غير إسقاطات استخدمها الخوارج من قبل وزايدوا بها على دين الناس، ثم الصحويون من بعد وزايدوا بها على دين الناس أيضا.

على المثقف أن يكون نقديا وليس دوغمائيا، فكل المعارف بالنسبة له تبقى نسبية، وعلى رأسها معارفه هو، وعليه توعية مجتمعة بما تعنيه النسبية من (تواضع، ونزاهة، وثقة، وشجاعة، وتعاطف، واستقلال، ومثابرة)، فالتفكير النقدي مرتكز على النسبية التي تمنحنا التواضع أمام الحياة والمعارف الإنسانية الأخرى، فالنسبية هي ما يعطينا القدرة على ممارسة النزاهة مع الذات في نقد الذات، مع الثقة في النفس والشجاعة على مواجهة عيوبها والتعاطف مع الإنسانية في الحضارات الأخرى والاستفادة منها، مع استقلال تحفظه النسبية، وأخيرا المثابرة التي ستنقطع وتنتهي لولا الشعور بهذه النسبية التي تجعل الكمال مستحيلا في هذه الحياة.

المثقف النقدي هو رهان المستقبل، أما المثقف الدوغمائي، سواء جاء باسم سيد قطب أو تروتسكي، فسيبقى ديناصورا مصيره الانقراض، خصوصا مع زمن المعلومات المتدفقة، أما المثقف النقدي فعنده اللياقة الكافية للنقد الذاتي ومراجعة مسلماته في كل لحظة، لكنه بالمقابل يدعو مجتمعه وفق أدواته النقدية إلى (نزع الوهم) عن وجه هذا العالم، سواء جاء هذا الوهم على شكل عمامة أو جاء على شكل ربطة عنق، فمواعظ الكاسيت الصحوية مليئة بالأوهام الدينية التي ورطت العباد والبلاد، ومثلها أيضا دورات الهندسة النفسية العصبية التي قادها أيضا صحويون باسم المنهج العلمي، وهي خرافة تلبس لبوس العلم، وعلى المثقف واجب نحو (نزع الوهم) وإشاعة مثل هذه الثقافة يساعد الآخرين من حوله إلى ترشيد دوره كمثقف، فلا يتخيل في نفسه دورا بطوليا أعلى من إمكاناته الحقيقية على أرض الواقع.

أخيرا.. بالنسبة لمن يتوهم أن المثقف هو نسخة أخرى للصحوي فهذا صحيح في حالة واحدة، إذا تحول المثقف إلى (داعية) تنطق بمحفوظاتها العلموية والأدبية التي تحرك (الوجدان) فقط باتجاه (غير إنساني)، فهو أخطر من (الصحوي)، فالخطاب التعبوي هو خطاب أيديولوجي لتعبئة الحشود، سواء جاء على لسان خريج المراكز الصيفية الصحوية أو خريج السوربون، وهذه النوعية (المزيج من مركز صيفي وجامعة غربية) موجودة، لتظهر على شكل مثقف حداثوي يلوي لسان العلوم الحديثة لمكاسب صحوية أيديولوجية، تلبس ثوب حقوق الإنسان التي لا يؤمن بجذرها الحداثي أبدا، لكنها لغة يستطيع بها أن (يرعى مع الراعي ويعدي مع الذيب)، ولهذا النوع من (الظواهر الثقافوية) نقول: تشذيب لحيتك لا علاقة له برجعية عقلك ولو ملأت خطابك بكل مفردات القانون الأنجلوساكسوني، ما دمت لا تدرك إحدى ركائز المثقف في كل بلدان الدنيا، وأهمها إيمانه في (سيادة الدولة)، فحتى نعوم تشومسكي المجيد في عيون الصحويين الجدد، لمن لا يعلم، هو (العالم الذي يعمل في خدمة الأبحاث العسكرية للجيش الأميركي، وهو الناشط السياسي المعادي للهيمنة الأميركية) راجع كتاب كريس نايت (تفكيك تشومسكي).

لا تثريب على العوام الذين يخلطون بين المثقف والصحوي دون تمييز، فقد روي في سيناريو أحد الأفلام المصرية عن أحد رجال الأعمال المسيطرين على السوق، أنه قال (زمان كنت بغش الشاي بنشارة خشب وأبيعه في بواكي شكلها حلو.. مكتوب عليها شاي (أبو الأصول) كسبت والماركة بقالها اسم وسمعة.. وفجأة.. النشارة غليت والنجارين اتملعنوا... عبينا الشاي من غير نشارة... تعرف حصل إيه؟ إتخرب بيتي وفلست... الزباين طفشت وقالوا علي غشيت الشاي.. مش بأقولك مغفلين..) وكم في سوق الأيديولوجيا من نشارة خشب لم تعد تسلو الناس عنها، رغم أن المحاكم أكدت أنها تسرق الكتب، وتبيعها باسمها، وتكرر الحماقات دائما، وتعتذر دائما، مراهنة على هؤلاء (المغفلين) الذين يرون في أمثال هؤلاء أنهم القدوة وليس المثقف الذي يتركهم دائما عراة أمام عيوبهم (والمثقف لا يستثني نفسه أيضا، فهو وفق علم الاجتماع مخرج من مخرجات مجتمعه، لكنه ناطق نقدي منها ولها)، ومن لا يحتمل هذه التعرية ليفكر في سترها، فليحتمل بقاءه في طابور المغفلين.

على المثقف أن يكون واعيا بأدوات الصحوي فيمارس النقد الفكري لها، ليظهر للناس كيف أن أدوات الصحوي لا تصمد أمام النظر العقلي والمنطق الطبيعي للأشياء