تحتفل الأمم المتحدة باليوم العالمي لمحو الأمية في كل عام تزامناً مع أسبوع «العودة إلى المدارس»، استشعاراً منها بأهمية الدور الذي تقوم به الحكومات والمؤسسات التعليمية في سبيل محو الأمية أو على الأقل تضئيل معدلاتها حول العالم.

كما هو معروف منذ القدم بأن الأمية هي عدم القدرة على القراءة والكتابة، حيث كان يطلق على البالغين ممن لا يجيد هذه المهارة الأمي. ولكن مع الطفرة العلمية والتكنولوجية التي نعيشها اليوم، اتسعت دائرة الأمية لتشمل كل من يفتقد إلى مهارات معينة تعيقه في سرعة الوصول إلى المعلومة وممارسة كثير من المجالات في الحياة اليومية بيسر وسهولة، كاستخدام الحاسوب أو الإنترنت مثلاً. علاوة على ذلك، فإن خبراء في منظمة اليونيسكو يرون أن الأمية لا يمكن محوها مستقبلاً إلا بالتعلم المستمر الذي لا ينقطع مدى الحياة (Lifelong Learning)، والابتكار ومواكبة التقدم والازدهار ونقل آخر التطورات العلمية إلى الأجيال المقبلة مع الحفاظ على الموارد الطبيعية، وهذا ما يعرف اليوم «بالتنمية المستدامة Sustainable Development».

يركز اليوم العالمي لمحو الأمية لهذا العام 2019 على «تعدد اللغات Multilingualism» وربط هذه المهارة أولاً بمحو الأمية في العالم، وأخيراً بالتنمية المستدامة. فمع العولمة والرقمنة التي فرضتها علينا التقنية اليوم، وكأن العالم بأجمعه يعيش في قرية صغيرة، أصبح من السهل تقليل معدلات الأمية بين البلدان وسكانها؛ ومع التقدم الملفت خلال العقود القليلة الماضية في تطور التعليم ووسائله إلا أنه تولدت تحديات جديدة واضحة للعيان في هذا المجال. فإذا كانت الأمية بالأمس هي عدم القدرة على القراءة والكتابة، وتكون اليوم في الافتقار إلى مهارة استخدام التقنية كالحاسوب وغيره، فسوف تكون الأمية غداً في ضعف «التعدد اللغوي» أو كما يعرف بأحادية اللغة، مما يصعب التواصل وتبادل العلوم والخبرات بين الشعوب. هذا ما تنبهت له المملكة واستبقت به الأحداث في تبني «التعدد اللغوي» وإدراج اللغة الصينية كلغة ثالثة في التعليم السعودي.

حققت جمهورية الصين الشعبية نمواً سريعاً وطفرات اقتصادية وصناعية هائلة أثارت إعجاب وفضول العالم، فبعد أن كانت الصين من الدول النامية استطاعت في 40 عاماً فقط أن تصبح أكثر دولة تصدر منتجاتها إلى العالم، لتصبح بذلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، وأول معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي عالمياً. وقد كان قرار تبني «التعدد اللغوي» في التعليم العام والجامعي واختيار اللغة الصينية دون غيرها كلغة ثالثة بعد الإنجليزية والعربية من أهم القرارات التي اتخذتها الدولة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فاللغة الصينية بحسب دراسات غربية حديثة أصبحت تنافس نظيرتها الإنجليزية بل إن كل المعطيات الراهنة تشير إلى أن الصينية هي «لغة المستقبل» وسوف تكون خلال العقود القليلة القادمة «لغة العالم» لما تحققه من انتشار واسع وكبير حول العالم، فضلاً عن أن خُمس سكان العالم اليوم يتحدثون باللغة الصينية.

هذا القرار السعودي الجريء له عدة أهداف اقتصادية وتجارية وسياسية، جميعها قد أُشبِع تفصيلاً في كتابات ومقالات أخرى. أما عن الفائدة المستدامة من هذا القرار والتي تتمحور في موضوعنا هذا، هي تأسيس الأجيال القادمة على «التعدد اللغوي» لتعزيز تواصلهم العلمي والاستفادة القصوى من العلوم المعرفية المختلفة حول العالم لأغراض التنمية المستدامة. فقد أثبتت الدراسات أن الأفراد متعددي اللغة هم أكثر ذكاءً وإدراكاً من نظرائهم أحاديي اللغة، وذلك لقدرتهم على التواصل مع الآخرين بشكل أكبر وتحسين مهاراتهم المعرفية، إضافة إلى قدرتهم على سرعة معالجة المعلومات وتنقيتها في أدمغتهم مما يجعلهم أكثر تفوقاً في التحصيل العلمي. كما ثبت أيضا أن «التعدد اللغوي» يفيد الأطفال في تطور نموهم العقلي، حيث إنهم يتفوقون في كثير من العلوم كالرياضيات على غيرهم من أحاديي اللغة الذين يحتاجون إلى وقت أكبر في حل نفس المسألة أو المشكلة.

فأهلاً وسهلاً باللغة الصينية وعوداً حميداً إلى المدرسة.