في كتاب «كيف تغير العالم ـ رواد العمل الاجتماعي وقوه الأفكار الجديدة؟» لمؤلفه ديفيد بورنستلتين، هذا الكتاب الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه إنجيل هذا المجال لتميز الأفكار التي تأتي من المجتمع ويكون لها أثر قوي على الجماهير والتغيير نحو الأفضل، تم طرح تساؤل رئيس في مقدمة الكتاب عن مدى إمكانية القضاء على الفقر؟، وهل يمكن توسيع نظام الرعاية الصحية وتوفير التعليم الجيد لكل أطفال العالم، والقضاء على المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المزمنة في المجتمعات النامية؟، فكانت الإجابة عبارة عن أدلة بتجارب عن إمكانية ذلك.

ذكر المؤلف بعض الأمثلة والقصص عبر العالم والتي كان أبطالها ومهندسوها أشخاص رياديون اجتماعيون أو اقتصاديون أو سياسيون مناضلون، استطاعوا الوصول لأهدافهم عبر بوابة تغير المجتمعات لاعتقادهم أن التغيير يبدأ من خلال تغير أفكار المجتمع، والتغير في مفهوم الوعي الخاص بالجماهير والشعوب، وأن تكون الجماهير هي الجزء المتحرك والأساسي في التغير والتطور، والمساهمة في التطوير، ولعل ما مرت به سنغافورة خير دليل على ذلك، سواء أكان من جانب النمو الاقتصادي المتميز منذ بداية عام 1980 عندما استطاعت أن تخفض معدل البطالة في البلاد إلى 3%، وأن تقفز بالناتج المحلي الإجمالي إلى معدلات عالية، ونوّعت استثماراتها، فاستثمرت الحكومة في شركة طيران سنغافورة والميناء الذي أصبح أكثر موانئ العالم ازدحاما، كما عملت الحكومة على إنشاء مجلس التنمية الإسكاني الذي استطاع حل مشكلة سنغافورة الإسكانية وإنهاء مشكلة البيوت العشوائية، وقام المجلس بتخصيص الأراضي وتسليمها إلى القطاع الخاص لتقديم خدمات راقية للسكان مرتفعي الدخل، كما وأدركت الحكومة أن السبيل الوحيد لضمان نجاح هذا النظام هو أن تمسك بزمام الأمور لتضمن تلبية جميع احتياجات السكان المادية.. وتشكلت معالم الدولة الوليدة تدريجيا.

جميع هذه الأعمال والتطور الذي قاده لي كوان يو، أول أمين عام وعضو مؤسس لحزب العمل الشعبي، وأول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة التي حكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية، حيث اشتهر بصفته مؤسس الدولة وناقلها من العالم المتخلف إلى العالم المتقدم خلال أقل من جيل. وذكر كوان يو في مذكراته أن سنغافورة لم يكن لديها موارد طبيعية كي تقوم باستكشافها فهي مجرد جزيرة تشغل أصغر مساحة في جنوب شرق آسيا، تعج بمشكلات البطالة، الفقر، الفساد، أزمة السكن، الركود الاقتصادي، وأنه وضع إستراتيجيات من ضمنها تحريك المجتمع غير المتجانس من خلال القيام بحملات عامة لغرس حس الانتماء لمجتمع يضم سكاناً من مختلف الثقافات.

وركزت حملات أخرى على تنظيم الأسرة، وحملات للتأدّب في التعامل مع الآخرين، وحملة أخرى تحث الناس على تقبل الآخرين، لبناء مجتمع متماسك ومتحضر يراعي كل فرد فيه حقوق ومشاعر الآخرين.

وفي عام 1986، ذكر لي كوان يو في حوار صحفي «كثيرا ما اتُهمت بأنني أتدخل في الشؤون الخاصة بالمواطنين. وأنا لا أنكر هذا، ولو لم نفعل ذلك، لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة. ولولا تدخلنا في كل صغيرة وكبيرة من حياتهم، بداية من جيرانهم إلى عاداتهم وسلوكياتهم ولغتهم، لما حققنا هذا التقدم الاقتصادي. نحن نحدد ما هو الصواب».

هذه الإستراتيجيات وإن بدت في ظاهرها القسوة والضغط على المجتمع وربط الأحزمة لكنها وبعد مرور 50 عاما، آتت ثمارها، وذلك بشهادة تقرير للبنك الدولي بيّن أن سنغافورة توفر المناخ الأكثر ملاءمة وتشجيعا لمزاولة أنشطة الأعمال في العالم. حيث تدل نتائج الدراسات على أن الترحيب بالسياسات الموجهة لتوجيه سلوكيات الشعب يزيد في البلدان التي تتناول فيها هذه السياسات قضايا تهم الجماهير، وتكون بمثابة شرارة التغيير وقبوله، وبالرغم من أن السنغافوريين لا يزالون يقتنعون بالحملات الشعبية لثقتهم بأن الحكومة تهتم بمصالحهم العليا، إلا أن البلاد تتبنى بشكل منهجي أساليب للتأثير ضمنيا على سلوكيات السكان، وقد يرى البعض أن هذا النموذج من نماذج التعاقد الاجتماعي الوثيق بين الدولة والمواطن لا يجدي، فإن أحدا لا يُنكر أن سنغافورة برهنت على سياساتها بنتائج مذهلة وخططت بدراية لمستقبلها الذي تعيشه الآن، واستطاع هذا البلد أن يصنع نهضته بنفسه وبمجتمعه من خلال توجيه سلوكيات الناس وتصميم البدائل بحذر لحثهم على اختيار ما يناسبهم وفق خطة الدولة.