بعد أن توفي النجم الغنائي السويدي (افيتشي) منتحرا أو بوفاة طبيعية أو تعب من صوت الدي جي أو.. أو.. ليس المهم.. المهم أنه زاد عدد متابعيه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من 300 ألف متابع جديد، وكأن هؤلاء المتابعين يعتقدون أن المقبرة التي ينام بها صاحبنا تقدم خدمات الواي فاي المجانية لنزلائها على سبيل المثال.

ولو نقلنا هذا الموضوع إلى مجتمعاتنا وراقبنا تعاملنا قبل وبعد وفاة أحد ما حولنا، وكيف تتحول الشكوك به إلى حسن ظن، والاتهامات بالمنكرات، إلى ترحمات مباركة، حتى ملابسه وأغراضه الشخصية التي لو وجدناها بقرب أغراضنا لرميناها للكلاب، أصبحت الآن مزارا لنا لنقف على أطرافها ونملأها دموعا، وكأننا أثناء حياته نعتقد أنه من الخالدين فأخذناه ملطشة على الصغيرة والكبيرة.

ليست هذه التعقيدات تحصل على المجتمع الضيق لدينا فقط، فكلما توسعت الدائرة تتوسع معها المشكلة، فمن لحق بإعلامنا وثقافتنا ومثقفينا أيام الراحل غازي القصيبي - رحمه الله - يدرك ذلك.

فما أن تجد متحدثا عن التغييرات والتصحيحات التي قام بها الوزير غازي القصيبي، والذي تم تسليمه الوزارات بناء على أوامر ملكية، إلا أن الأغلبية يبدؤون سيل التشكيك به واتهامه بالتبعية لأحزاب عالمية تهلك العباد والحصاد والأرض، وأنه يسعى للتشكيك بالثوابت الدينية وغيرها من المشاكل التي وصلت بالمعارضين لفكرة التقدم بعدة شكاوى بحقه تم رفعها حتى وصلت إلى الديوان الملكي أكثر من مرة.

والغريب أنه مهما كان قد وصل بنا الحال ضد غازي القصيبي وغيره، إلا أننا وبمجرد أن نسمع أن الموت قد غيب أحدهم، فأقل ما يبدأ يتغير فينا أننا نقول (والميت ما عاد يجوز عليه إلا الرحمة)، وكأن لدينا آية من القرآن تفرض علينا (أن الحي ما يجوز عليه إلا التشكيك والتخوين وآخرتها الطرد من الرحمة ما دام حيا) وبعد أن يموت لا مشكلة فسندعو له بالرحمة.

ناهيك عن أننا بدأنا نعي حينها أنه لا سلطة لنا على الميت مهما كانت لنا سلطة عليه قبل وفاته، فلو كنت مديرا للمتوفى أو ضابطا عليه، أو أباه وكنت أذيقه الويل وسواد الليل وفجأة غيبه الموت، فقد يكون سبب (حنية قلبي) المفاجئة أنني تأكدت من عدم قدرتي على إذاقته العذاب مرة أخرى، بعد أن أخذه من زرع فينا الرحمة لنذيقها لخلقه في حياتهم وليس بعد مماتهم، فماذا استفاد (افيتشي) من مشاعر 300 ألف متابع بعد وفاته.

نظرة للسماء: قد تكون دموعنا الحارة تجاه المتوفى، ليس لها علاقة بصدق مشاعرنا تجاهه، بقدر ما هي إحساس بضعف سيطرتنا على الحياة من حولنا، فلماذا لا نستجلب هذا الشعور بغير وفاة أو فقد، ونترك من حولنا للذي خلقهم ونقول (الميت والحي ما عاد لهما منا إلا الرحمة).