مثلت نهاية القرن الثامن عشر الميلادي مرحلة هامة من مراحل تطور الحياة الإنسانية، إذ شهدت ما يعرف بالثورة الصناعية في أوروبا، والتي أسهمت في تغيير وجه العالم بصورة جذرية وللأبد، حيث تغيرت معها تلك الحياة البدائية البسيطة التي تعتمد على الإنتاج الزراعي والحيواني إلى حياة تعتمد على تكنولوجيا الآلات والمحركات البخارية التي قربت المسافات البعيدة وأسهمت في مضاعفة الإنتاج، ثم تتالت بعد ذلك الثورات الصناعية الثانية والثالثة ومؤخرا الرابعة التي نحن بصدد الحديث عنها الآن.

قبل الحديث عن الثورة الصناعية الرابعة، لا بد من الإشارة للثورة الصناعية الثالثة المتمثلة في تلك النقلة النوعية في مجالات الرقمنة digitalization والتشغيل الآلي، وظهور الكمبيوتر الذي مكن من تخزين ومعالجة البيانات، مصحوبا بظهور الإنترنت والشبكات التي ربطت وسهلت التواصل بين الأماكن المختلفة. وقد مهدت الثورة الثالثة لظهور الثورة الرابعة خاصة فيما يتعلق بشبكة الإنترنت واتساعها، وتوفر أجهزة الكمبيوتر ذات قدرات معالجية processing جبارة، ومساحات تخزينية للمعلومات هائلة مع إمكانية الوصول للمعرفة بسهولة ويسر.

تتميز هذه الثورة باضمحلال الحواجز بين المكونات المادية والبرمجية في العملية الصناعية، وتولي الأجهزة الكمبيوترية إدارة هذه العمليات كاملة، ودخول إنترنت الأشياء في كل الأجهزة وخطوط الإنتاج، علاوة على ذلك دخول الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في عمليات التسويق والبيع وتحليل الأسواق وتوقعاتها، كما تتسم هذه الثورة بتطوير الروبوتات القادرة على أداء المهمات البشرية بكفاءة. وبذلك أصبح الذكاء الاصطناعي مدعوما بتوفر بيانات ضخمة وقدرات تحليلية عالية، قادرا على إلغاء الكثير من التدخلات البشرية في العملية الصناعية، ليس ذلك فحسب، بل أيضا بتوفر البنية التحتية من إنترنت الأشياء الذي أسهم كثيرا في إلغاء أدوار كبيرة لعمال الإنتاج وعمليات الفحص والاختبار.

يضاف لكل هذا التطور الهائل في التكنولوجيا الحيوية التي منحت قدرة كبيرة في التغيير الوراثي للنباتات والكائنات الحية لزيادة كمية الإنتاج، أو زيادة المقاومة ضد نوع معين من الأمراض أو الآفات، وإمكانية تطوير أنواع وراثية ذات مواصفات معينة ونخب مختارة.

نستخلص من كل ما سبق أن هذا العصر الصناعي الجديد قد ساهم بالعديد من المزايا أهمها، أولا: زيادة الإنتاجية وذلك بتوفر الأتمتة في جميع المراحل الصناعية، وهذا قلل وقت الإنتاج وزاد من كفاءة استخدام المعدات والبنى التحتية وإدارة المخزون. ثانيا: مكّن استخدام شبكة متكاملة من المستشعرات والمشغلات التي تراقب الإنتاج بدقة في زيادة جودة المنتج وسرعة اكتشاف الخطأ، إضافة إلى تقليل تدخل العنصر البشري. ثالثا: زيادة مرونة العملية الإنتاجية من خلال الأليات والروبوتات التي تستطيع تنفيذ العمليات الإنتاجية لعدد كبير من المنتجات. رابعا: تقليل الوقت اللازم لتطوير الفكرة من كونها فكرة أول الأمر وحتى وصولها لخطوط الإنتاج بكميات تجارية، وذلك باستخدام برامج محاكاة وبرامج تصميم تزيد من سرعة العمليات. خامسا: تحقيق «الأمن الغذائي» و «حماية البيئة» وذلك بما توفره التكنولوجيا الحيوية من أدوات فعالة في عملية الإنتاج. وعلى الرغم من الفوائد الكثيرة لهذه الثورة الصناعية وإسهامها في تحسين جودة حياة ساكني الكوكب، إلا أنها قد تهدد كثيراً من الوظائف التي سيتحول أصحابها إلى عاطلين، أضف لذلك سيتمكن أصحاب الثروات من استغلال الموارد الطبيعية بشراهة ما يعمق تركيز الثروات في أيديهم، بكل ما يصاحب ذلك من كوارث طبيعية ومشكلات اجتماعية تهدد الأمن والسلم الاجتماعي.