تبرز في مجتمعنا مع كل خطوة نحو التطوير والارتقاء في كافة الجوانب التعليمية والمهنية والتربوية والاجتماعية والترفيهية والحقوقية قضية الاختلاط بين الرجل والمرأة، في أي مكان وكيفما كان، وأن اقترابهما فيه كثير من الإشكالات والمشكلات، وهذا المفهوم ومن حيث لا نعلم أحدث شرخا نفسيا، وأفقد الثقة في العلاقة بين الرجل والمرأة، ووصفها صراحة أنها مقدمة لتجاوز الحدود الشرعية والأخلاقية والدخول في المحظورات، فكانت النتيجة الطبيعية الأخذ بقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وقد ساعد في تقوية هذا المصطلح والاعتماد عليه في الرفض والمنع وإيقاف كل حركة من الاقتراب منه، مجموعة من الأحكام الفقهية المستندة على أدلة الفهم والاستنباط حول محور النصوص الدينية التي يُؤخذ منها هذا الفهم، ويجعل من بعض المرجعيات الفقهية والاجتماعية أن تقف سدا منيعا حول عدم تجاوز مفهوم الاختلاط.

وبعيدا عن كل هذا التهويل والعويل الذي يُضخمه لنا مفهوم الاختلاط فإننا بحاجة ماسة وضرورية إلى تقصي الجذور التي نشأ منها هذا المصطلح، واستمد قوته في العقل الباطن، وأدى إلى إنتاجه كوسيلة حماية للمجتمع من آثاره، فالعرب وغيرهم في الجاهلية كانوا ينظرون إلى المرأة على أنها صاحبة مكيدة وفتنة ومتاع، وليس لها حق الميراث أو التملك، وتعدد دخول الرجال عليها، وأنها خادمة وشُؤم ونحس على أهلها وبيتها، وأنها عار نتيجة الخوف من سبيها والحاجة إلى وأدها لعدم قدرتها على المشاركة في الإنتاج والحروب، وجاء الإسلام على عكس هذه المفاهيم، وعمل على تكريم المرأة وأعطاها دورها ومركزها في الحياة، وأنها تتكامل مع الرجل في تبادل الأدوار، وتشترك معه في العبادات وأداء المسؤوليات، وعمل على إزالة النزعة الذكورية في الاستعلاء عليها، وأوجب الحقوق والواجبات لكليهما بما يُناسب المسؤوليات ونوع العبادات.

وتعود بنا الذكريات إلى الثمانينات الهجرية عندما تم افتتاح مدارس تعليم البنات في بلادنا وما رافقه من امتعاض ديني واجتماعي حول المخاوف من خروج المرأة من بيتها، وما قد يُفسد فطرتها وأخلاقها، وتدور عجلة الأيام وتحقق المرأة في تعليمها التفوق العلمي والأهم منه الأخلاقي، وتدحض وتقاوم كل المعوقات التي وقفت في طريقها والارتقاء بها، وفي السنوات الأخيرة دخلت سوق العمل مباشرة وأمام العيان، وهي تتعامل مع كافة شرائح المجتمع في عملها التجاري والمهني والخدمي، وقبل أكثر من عام استقلت في قيادة السيارة بنفسها وتجاوزت أكبر قيد كان يتحكم في حركتها وذكورية السيطرة حتى في استخدام وسائل المواصلات، وأخيرا تم إعطاء المرأة الحق في استخراج جواز السفر والسفر بمفردها لمن هن فوق سن الواحد والعشرين عاما، وهي خطوة إيجابية عززت فيها النضج والثقة والأمان.

ويبقى الاختلاط أمر لا بد منه، والحاجة إليه تزداد يوما بعد آخر بما تفرضه عصرية الحياة والانفتاح والتعامل في جميع المجالات، وحصر الاختلاط في التفكير بالوقوع في المحظورات والبعد عنها دليل على البساطة والسطحية والانغلاق، فالمنع من الاختلاط يُطور أساليب التحايل وإيجاد المبررات، ويخلق حالة الاحتقان والرغبة الجامحة في فك قيوده، والبديل الأمثل هو إدخال قيم الاختلاط السليم في مناهج وتعاليم التربية الأسرية والاجتماعية والدينية، بحيث إننا نتعامل معه كحاجة واقعية ونتعايش معه ونعالج بعض التجاوزات إن وجدت، وإن الاختلاط مظهر من مظاهر الوعي الحضاري وتبادل ثقافة الاحترام، وإن التمسك به دليل على بدائية التفكير وعقدة الخطيئة وأنانية السيطرة.