حفزني لكتابة هذا المقال شكوى طويلة الأذيال من أحد الشباب يتذمر فيها من منع العلماء له ولأقرانه من السؤال، ومحاولتهم إرغامه وأمثاله على قبول ما يقولون دون تفكير، ويُصرُّ هو على أنه سوف يسأل ولن يتوقف عند أقوال العلماء وسوف يحاجج ويجادل، ويرى أن إبراهيم عليه السلام قد شكَّ وأفضى بشكه هذا إلى ربه، وقبل منه ربه هذا الشك وذلك السؤال، ولذلك فهو ينصح كل شاب بأن يسأل ويسأل ويسأل، ولا يبالي بمن يقول له: من أنت حتى تناقش العالم فلان والعالم فلان.

هذه جملة ما سمعته من شكواه، والحقيقة أن مثل هذه الشكوى لا أقول إنها تدور بين الشباب؛ بل أقول: إنها تُدَار بين الشباب، فوضع الحواجز بين الشباب وأهل العلم وتشويه صورة أهل العلم في أعين الشباب، وتشجيع الأجيال على الانفلات من أي ارتباطات فكرية بالعلماء الراسخين في العلم ممن ثبتت لهم القدم في مباحث العلوم الشرعية مع الديانة والورع، كل ذلك مقصد عبرت عنه بعض تقارير مراكز الأبحاث التي تريد بنا وببلادنا وديننا سوءا، أذكر منها التقرير المهم الذي تحدثت عنه في مواقف عدة والمسمى بـ«الإسلام الديمقراطي المدني»، فقد نصت فيه الباحثة في مركز راند للأبحاث والذي كان مقره الدوحة وقتها، على ضرورة تشويه صورة العلماء والمؤسسات الشرعية وعدم السماح بأي تقارب بين المشايخ والدعاة الإصلاحيين؛ وأعتقد أن هذا الشاب وغيره قد يكونون من المتأثرين بهذا النشاط الدعائي ضد أهل العلم والمؤسسات الشرعية؛ لأنهم يختلقون مشاكل ليست موجودة ويزعمون أنهم يريدون تصحيح خطأ ليس ثَمَّ إلا في مخيلتهم، ويُرَوِّجون اتهامات ليست صحيحة ليُظن أنها حقائق لكثرة ترويجها؛ وذلك كزعمهم أن العلماء يمنعون من السؤال.

وهنا أقول: من هو العالم الذي منع من السؤال؟

الجواب: لا يوجد، إذ طالما أكثر أهل العلم من التنبيه إلى قوله تعالى ﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ [النحل: 43-44] فالآيتان تضمنتا أحكاماً لا يتنصل منها أي عالم صحيح العلم على منهج السلف، ومنها:

- وجوب سؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم بالذكر، ومن وَجب سؤاله تعينت عليه الإجابة، وقد سماهم الله تعالى أهلَ الذكر، ولم يُسمهم في هذا السياق بأهل العلم، مع أنه سماهم في سياقات أُخر با أهل العلم، وبالراسخين في العلم، والسِّر في ذلك -والله أعلم- التأكيد على أن المسائل المتعلقة بالدين لا يُسأل عنها إلا من ارتبط علمه بالذكر وهو في الإسلام الكتاب والسنة.

- ومنها: أنه لا يُسأل في الدين إلا أهل الذكر وهم الراسخون في العلم به، أما سؤال غيرهم عنه، أو الاستبداد بالجواب دون سؤالهم فهو من زيغ القلوب واتِّباع الهوى وضربُ للأدلة ببعضها واتباع للمتشابه وابتغاءُ للفتنة.

- ومنها: أن الناس مأمورون بالتفكر؛ لكن التفكر المأمور به لا يكون إلا بعد أمرين: هما بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤال أهل الذكر، والحقيقة: أنه لا سبيل إلى معرفة بيانه صلى الله عليه وسلم إلا بسؤال أهل الذكر؛ أما التفكر بمعزل عن ذلك فهو اعتداء واتباع للهوى.

وبذلك نستنبط أن التفكر الذي أمر الله به هو فهم الدليل على الأمر المسؤول عنه، والتأمل في الحِكَمِ والمواعظ التي تضمنها الدليل وتضمنتها الأحكام المستنبطة منه؛ وليس التفكر في تقديم الهوى على النص بزعم العقل أو المصلحة أو أي عذر آخر.

وكما أن للسائل حقوقاً فعليه واجبات إذا تخلى عنها أسقط حقه في الجواب عن سؤاله، وانتقل سؤاله بِتَخَلِّيه عنها من رافد للعلم والبحث إلى موقد من مواقد الفتن والشرور؛ ومن تلك الواجبات: أن يسأل بقصد التعلم والازدياد من الخير وليس بقصد الجدل أو إظهار الذات أو مغالبة العلماء أو إشاعة شبهة، فإن العالم إذا عرف من السائل أياً من هذه الصفات فإن له ألَّا يُجيبه، إذ قد يرى في إجابته مفاسد من إشاعة الجدل أو نشر الشبهات أو تغرير الناس بالسائل أو غير ذلك، كما صنع عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل فإن عمر لم يُجبه بل ضرب رأسه بالدرة لأنه لم يكن مسترشداً وطالباً للحق، وإنما جاء وهو يحمل كبرياء المتعالمين الذين يتصيدون المستشكلات ليغالبوا بها أهل العلم، والأصل يقتضي أن يكون متواضعا للحق موقراً للمسؤول؛ ومن العلماء من يجيب أمثال هؤلاء حين يرى أنهم إذا أُهمِلوا ولم يُجَب عن أسئلتهم استطالوا ونسبوا ذلك إلى عجز العلماء، وكان يفعل ذلك الشيخ صالح الفوزان حفظه الله، فإنه يدبج المقالات في الجواب عن إيرادات بعض من يظهر عنادهم لمثل هذه الحِكَم التي ذكرتُ وحتى لا يتأخر الجواب عن إيراداتهم فيغتر بها من لا علم عنده.

ومن واجبات السائل: ألا يسأل عمَّا ثبت في كتاب الله من عالم الغيب كذات الله تعالى وملائكته واليوم الآخر ونعيم القبر وعذابه؛ فإن ذلك كله مما نؤمن به جملة لثبوته بالدليل القطعي من القرآن والسنة، أما تفاصيل ذلك فنؤمن بما ثبت منها في الوحي ولا نسأل عن كيفيتها، لأن عالم الغيب لا يُمكن إدراكه بالحس، ولهذا نقتصر من علمه على ما علمنا الله إياه؛ فإن الله حين ذكر عالم الغيب أتبعه بذكر موقف أهل الإيمان منه وهو التسليم بالسمع والطاعة.

ومن واجبات السائل: ألَّا يُجادل من هو أعلم منه إلا بقصدٍ للحق وحجة ناشئة عن علم، فإنه إن لم يكن قاصداً للحق فهو قاصد للباطل، ومن الباطل تعمد إظهار النفس وإشباع الغرور وابتغاء القَالَة، فإن قَصَد الحق فعليه ألا يجادل إلا بعد تعلم، فإن من لم يتعلم فعليه الاستسلام لما يفتي به من يثق به من العلماء، أما أن يريد مناكفة العلماء دون أن يتحمل أعباء التعلم فليس هذا إلا الغرور والكبرياء وهما ليسا من أخلاق أهل الإسلام فضلا عن طلاب العلم والعدل.

ومن واجبات السائل الصبر على الحق، فليس من شروط الحق أن يُلَبي الرغبة ويسد الحاجة، فإذا خالف الحقُ الهوى فعزيزة هي النفوس التي تنصاع له وتتجرد من أجله عن مجموعها وغرورها.

فإذا علم السائل كل ذلك وعمل به كان حقاً على أهل العلم إجابته والتبسط له وإفراغ الوسع في تعليمه وإرشاده كلٌ في تخصصه، وهذا ما أعلم أن أهل العلم يفعلونه ويسافرون لأجل أن يلتقوا بالشباب المسافات الطوال ويحاضرون في المساجد والجامعات ومكاتب الدعوة، ومنهم من له برامج في القنوات الفضائية وفي المواقع الاجتماعية، ولا أعرف أحداً منهم ووجه بسؤال على الصفات التي ذكرتُ أو بعضها ثم قال لا تسأل؛ لكن أهل العلم تعودوا التجني عليهم وتعودوا الصبر، فعلى الله حسن ثوابهم.

أما الاستشهاد على جواز الشك بفعل إبراهيم عليه السلام كما في الآية: «وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم» [البقرة: 260] فإن الآية قاطعة الدلالة على عكس ذلك، فالله عز وجل سأل نبيه سؤال استنكار (أولم تؤمن) فأثبت إبراهيم الإيمان لنفسه وقال: (بلى) فمن أين جاء هؤلاء بأنه عليه السلام شك وأن الله أقره على شكه؟!

وأما قوله (ولكن ليطمئن قلبي) فمن ورع أهل الإيمان الذين يتهمون أنفسهم وتجدهم باحثين دائما عمَّا يزيد إيمانهم، كما قال ابن أبي مليكة «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل» وأثنى سبحانه على مثل هؤلاء بقوله ﴿إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون﴾ [السجدة: 15-16]