قبل ثلاثين عاما رأيته، وأجريت حوارا معه نشر في جريدة البلاد، واليوم أذهب إليه في الاحتفال بجائزته وما زال ذلك الضوء الذي يشع من عينيه يأسرني، ويأخذني إلى حيث لا أدري.

أمين مدني -رحمه الله- كان عالما مستقلا بذاته، كان صادقا في تسجيله الأحداث، وأمينا مع قرائه مخلصا في عمله لم يلبس الأيام رداء غير ردائها، ولا استعار للتاريخ وجها غير وجهه، لقد كان مؤرخا أمينا، وكان له من اسمه نصيب.

وكانت عينا أمين مدني المؤرخ الكبير تسكبان في أحداقنا وطنا عظيما أحببناه هضابا وصحراء ونخيلا تنمو فوق رموشنا، وحلما جميلا تطبق عليه أجفاننا، وينبوعا عذبا في شرايين دمائنا.

لم يكتب السيد أمين مدني عن جغرافية أرض وطقوسها ومناخها وحياة أهلها فحسب، بل كان يدوّن حبا عظيما وراسخا لهذا الوطن، كانت تلال المدينة تخصب وينبت العشب بين كفيه وهو يكتب عن طيبة وأهلها، وكانت الحروف ترتفع مآذن شامخة ما بين السطور تتلو آيات الذكر الحكيم وتنشر الحب في كل البقاع وتتسلل إلى كل القلوب.

كنا نقرأ لأمين مدني -رحمه الله- فنسمع أصوات الشهداء الأبرار في بدر والبقيع وأحد، وكانت تأتي مع صهيل الخيل ونداءات التكبير من خلف الجبال والتلال نسمات حالمة، إنها ريح الجنة التي وعد الله بها جنوده وشهداءه الأخيار.

من هذه البقاع الطاهرة خرجت ذات يوم أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية لتحمي النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- بسيفها وسهامها وبجسدها حتى سقطت وسلاحها في يمينها تذود عن الرسول الكريم في يوم أحد. وقد عاشت وندوب جراحها الغائرة تاريخا ناصعا لجهاد امرأة في المدينة المنورة، لقد كانت دماء نسيبة شهادة ميلاد للمرأة المسلمة المكافحة في سبيل الله، التي تحارب عند دينها وأرضها ومدينتها.

إن فتاة المدينة المنورة التي عرفت برقّتها عرفت أيضا بصلابتها ودفاعها عن رسول المحبة والهدى والسلام.

وهي نفسها التي خرجت عند مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- محتفية منشدة ليصل صوتها إلى بقاع الدنيا، ويتوارث نشيدها كل الأجيال في كل العصور «طلع البدر علينا».

أمين مدني الذي تحدث بعشق رحب عن كل تاريخ المدينة وآثارها وأبطالها وشهدائها، لم ينس نهضتنا المعاصرة، وكم كنت أتمنى لو عاش السيد أمين مدني إلى يومنا هذا ليرى بعينيه -رحمه الله- ما وصلت إليه مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من رقي ونهضة شاملة في كل المجالات، وليشهد التوسعة العظيمة لمسجد الرسول في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، حفظه الله، والتي يتحدث عنه العالم اليوم، مشيدا بما وصلت إليه المدينة المنورة من رقي ونهضة كبرى لم تشهدها في كل العصور السابقة.

إن أدباء المملكة العربية السعودية الذين يحتفون بجائزة رائد كبير من رواد المدينة المنورة وأدبائها الكبار السيد أمين مدني، رحمه الله، والذين توافدوا من كل أنحاء البلاد مطالبين بأن يسجلوا بأقلامهم نهضة المدينة وتطورها الشامل.

لقد شهد مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمين مدني ساجدا وراكعا ودارسا ومعلما، والأحرى أن تقدم جائزته لمن يقدم أفضل بحث عن مسجد الرسول نبي الهدى والرحمة، محمد صلى الله عليه وسلم.. وبالله التوفيق.

* 1995