تشكيل الأسرة سيتغير لا محالة، فالأمهات سيخرجن للعمل، والأطفال سينتظمون في روضة الأطفال لمدة تتجاوز الساعات الثماني، والوقوع في أزمة ضيق الوقت سيصبح حتميا عند أفراد الأسرة

مع تراجع النشاط السكاني في مناطق الأرياف والقرى، وشروع السكان في الهجرة الجماعية من الريف للمدن الصناعية، في وقت كان (البيت المقدس) يمثل أساس نظامنا الأخلاقي، انقلبت كل القيم رأسا على عقب بعد صراع طويل بين قيم المجتمع الريفي -ويمثله الريف- وقيم المجتمع الصناعي وتمثله المدينة.

كانت المرأة والرجل في المجتمع الريفي ينعمان بالوقت الطويل والحياة الهادئة، ويعيشان ويعملان من أجل الأسرة، وفي ممتلكات الأسرة من مزارع ومحاصيل ومواشٍ تعود ملكيتها للأسرة الصغيرة. ولكن منذ انتهكت المصانع مجتمع الأرياف وامتصت المدن موارد الريف الطبيعية والبشرية، وهاجر أبناء الريف إلى المدينة الصناعية بحثا عن لقمة العيش، من هنا بدأ الانقلاب السريع للتقاليد والقيم الأخلاقية التي وجدت نفسها في صدام مباشر مع قيم المجتمع الصناعي الجديد وممثله سوق العمل.

ولو تصورنا سوق العمل على هيئة رجل، لكانت أبلغ صورة هي ذاك الرجل المخاتل الساعي إلى إشعال فتيل الحرب بين الرجال والنساء وبين التيارات المتصارعة، دون أن يقحم نفسه في أي صراع، فهو يكتفي بالمشاهدة من مكان قصي، ويكتفي بإرسال من يناضل من أجله بالوكالة، وكل حرب بالوكالة يشنها أنصار سوق العمل تنتهي بالانتصار المظفر، ففي العصر الحديث لا يوجد من يمنح الرجل والمرأة المكانة الاجتماعية المرموقة إلا سوق العمل، وكل فرد في المجتمع يرفض الدخول في العجلة الاقتصادية التي يديرها سوق العمل، فإنه سيصبح فردا معطلا يعيش على هامش المجتمع.

يقول الكاتب الأميركي ويل ديورانت «وأول خطوة قانونية لتحرير جداتنا كان تشريع عام 1882 الذي ينص على أن نساء بريطانيا العظمى لهن الحق في التمتع بمزية لم تكن لهن من قبل، وهي الاحتفاظ بما يكسبن من أجر. كان ذلك التشريع أخلاقيا ومسيحيا إلى أقصى حد، فرضه أصحاب المصانع في مجلس العموم ليجذبوا فتيات إنجلترا للعمل في مصانعهم». فكانت حركة تحرير المرأة ليست إلا عرضا من أعراض الثورة الصناعية، أو كما يقول ويل ديورانت «فالمرأة المتحررة ثمرة تطورات اقتصادية ليس لإرادتها يد فيها، ومن التناقض الشنيع أن توجه إليها الحملات الأخلاقية تلومها على ما هي عليه».

إن المجتمع الصناعي يضطر الزوج والزوجة اللذين لديهما أطفال للعمل بدوام كامل، وسوق العمل يفضل الأم التي تفضل الجلوس في اجتماع مع مجلس الإدارة بدلا من أن ترى طفلها وهو يخطو أولى خطواته، والفكرة السائدة في مجتمعنا أن المتزوجات لا ينبغي أن يخرجن للحياة المهنية سوف تصبح قريبا من مخلفات الماضي، ومن اليوم سنتناول قضيتي العمل بدوام كامل والأسرة بشكل مختلف وجدي.

تشكيل الأسرة سيتغير لا محالة، فالأمهات سيخرجن للعمل، والأطفال سينتظمون في روضة الأطفال لمدة تتجاوز الساعات الثماني، والوقوع في أزمة ضيق الوقت سيصبح حتميا عند أفراد الأسرة، وإيقاع الحياة اليومي سيزداد سرعة وصخبا، وسوق العمل سيعوّد الأم على سد أذانها عن صوت بعينه، ألا وهو صوت بكاء طفلها حين تتركه في روضة الأطفال وتغادر إلى مقر عملها.

ومع رغبة المرأة في الاستقلال والعمل بدوام كامل من ناحية، ورعاية أطفالها من ناحية أخرى، ومع المحاولات الحثيثة للتوفيق بين العمل والأسرة، سيجد الوالدان نفسيهما أمام ضغط نفسي وجسدي وعصبي كبير، أمام تحديات الحياة اليومية من توصيل الأطفال لمدارسهم والعودة بهم للبيت مع الالتزام بدوام كامل، وأمام هذه الضغوطات ستجد الأسرة نفسها أمام حل لا مناص منه، وهو إحضار خادمة منزلية لتلعب دور الأمومة في المنزل، وسائق ليغطي دور الأب الغائب، وبدونهما فإن مجرى الحياة اليومي سيصاب بالشلل الكامل.

ومع خوض الأسرة غمار الحياة الاقتصادية يتولد شعور بالذنب عند الأم تجاه أطفالها الصغار الذين تقضي ساعات طوال بعيدة عنهم، وهذا الشعور أقل عند الأب بطبيعة الحال، وهذا ما يجعل التفكير بالإنجاب عملية محفوفة بالمخاطر تحتاج إلى تفكير متأنٍّ ودراسة مستفيضة، مما يجعل النساء العاملات يفكرن باللجوء إلى حبوب منع الحمل أو يعدن تعريف حياتهن الجنسية بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل، وسوق العمل -بطبيعة الحال- لا يفضل العاملة التي لا تكف عن التفكير في أطفالها، أو لا تكف عن تقديم طلب إجازة الأمومة.

ومأزق ضيق الوقت الناتج عن محاولة التوفيق بين رعاية الصغار والعمل بدوام كامل، شجع كثيرا من الدول الصناعية على دراسة الصراع الناجم عن هذه الثنائية وأثرها على الأسرة، وتحديدا على الطفل الذي يقضي أكثر من 8 ساعات في رياض الأطفال، وقد تطرقت رئيسة هيئة المساواة النرويجية كريستين مايل عام 2005 لهذه القضية قائلة «إننا في حاجة لنفتح حوارا حول عدد ساعات عمل اليوم العادي، وغيرها من التدابير التي يجب أن تتخذ كي تجعل سوق العمل أكثر اتساقا مع ظروف الأسرة».