لم تكن هجرة أهل الأرياف والقرى الجماعية إلى المدن الصناعية الحديثة، هجرة مادية أو جسدية من مكان لآخر فقط، بل هجرة نحو مفاهيم وقيم جديدة ونمط حياة جدي. فالمجتمع الصناعي عاش حالة صراع قيمي مع كل شعوب العالم بلا استثناء، في سبيل فرض قيمه ومفاهيمه التي قد تتفاوت ما بين التوافق والتضاد الكلي مع كل القيم القادمة إليه.

أحد أهم المفاهيم التي عاشت حالة صراع طويل مع المجتمع الصناعي وممثله سوق العمل، هو مفهوم ربة البيت الذي يبدو أنه في طريقه نحو الاندثار في السنين المقبلة، فقد كانت الأعمال المنزلية تحظى بتقدير واحترام كبيرين في السابق، ولكنها اليوم أصبحت عبارة ثقيلة تتراوح بين الإشادة والازدراء.

حسب منطق السوق يعد مفهوم «ربة البيت» تجسيدا لكل ما هو رجعي، بل إنه ينظر لربة البيت كونها عضوا معطلا في المجتمع مع كل ما تقدمه من تضحيات من أجل الأسرة، مع أنها سبب لجعل البيت مكانا صالحا للعيش بما تضفيه عليه من تناغم واستقرار. وبسبب أهمية الدور الاجتماعي الذي تقدمه ربة البيت فإن كثيرا من المنظمات سعت حثيثا من أجل الاعتراف، بأن الأعمال المنزلية التي تقدمها ربات البيوت تحمل نفس قيمة العمل المهني خارج المنزل. فصارت الأعمال المنزلية وتضاربها مع منطق سوق العمل جزءا من النقاشات الاقتصادية، وجدول أعمال السياسة في كثير من الدول المتقدمة.

فمن وجهة نظر سوق العمل، فإن الأعمال المنزلية ينظر لها بصفتها (لا اقتصادية)، فهي تندرج تحت الأعمال غير القابلة للحصر والقياس، لذلك جدواها الاقتصادية غير ملحوظة بالنسبة لسوق العمل، فأصبحت ربة البيت لا تحظى بأي ضمان اجتماعي أو تأمين صحي، فهي مهنة محفوفة بالخطر في المجتمعات الحديثة. لأن مجرد وفاة الزوج أو الأب يعني اختفاء مصدر الدخل الوحيد.

فإذا كانت المرأة في الماضي تعتمد اعتمادا كليا على دخل زوجها، فإنها اليوم تعتمد على وظيفة يقدمها سوق العمل، لذلك فإن سوق العمل سيفرض شروطه، فأي عمل لا يعتبر عملا ما لم يكن بأجر وخارج المنزل، وحسب متطلبات سوق العمل، فإن المال سينظر له باعتباره صاحب القيمة الأكبر، وأنه الطريق الأوحد للحرية والاستقلال الاقتصادي، وحتى الأعمال المنزلية ستصبح محايدة من حيث الجنس، فالرجال سيضطرون للمساهمة في أعمال المنزل أكثر من ذي قبل، ولكن هذه المساهمة لن تحمي الزوجين من الوقوع في مأزق ضيق، أو التعرض لضغوط العمل المتزايدة التي تبدو وكأنها بلا نهاية، ولن تمنع زيادة الأعباء المنزلية، وكثرة الغبار على الأرفف، والأواني غير المغسولة في حوض الغسيل، وذهاب الأطفال للحضانات ورياض الأطفال.

أدوار الأمومة والأعمال المنزلية ستخضع لقوانين السوق، فالأعمال اليومية المعتادة في المنزل التي كانت تقدمها الأم بدافع من العطف والحب والتضحية لأفراد الأسرة، ستصبح جزءا من العملية الاقتصادية وتخضع لمنطق بيع وشراء الخدمات، ففي كثير من دول العالم ظهر كثير من الشركات التي تقدم الخدمات المنزلية بأسعار تنافسية، وبعضها يندرج تحت مظلة السوق السوداء، ومن هنا دخلت الأعمال المنزلية في عجلة الاقتصاد وأصبحت ترضخ لقوانين العرض والطلب.

في مجتمعنا لم يعد وجود العاملات المنزلية والسائقين ترفا اجتماعيا، بقدر ما هو حاجة ملحة لكثير من الأسر، حتى صار لدينا شركات تجارية تحتكر سوق الاستقدام وتقدم خدماتها بأسعار خيالية، وأغلب الأسر اليوم تعيش أزمة الاستقدام، وهذه الأزمة المفتعلة توازيها رغبة كثير من الدول الآسيوية والإفريقية لتسهيل عملية الاستقدام، نظرا لأن سوق العمالة المنزلية تعني لها مزيدا من الحوالات المالية والعملة الصعبة التي تضخ في اقتصادها.

أسهمت العمالة المنزلية في تحقيق حرية أكبر للرجل والمرأة على حد سواء فيما يتعلق بأعمال المنزل وواجبات الأمومة، وفي ترسيخ أيديولوجيا المساواة بين الجنسين التي يرعاها سوق العمل ويعد عرابها الأول والمنظر الخفي لها، ولكنها خلقت شكلا آخر من الفروق الاجتماعية في قضية المساواة، حيث أصبح المجتمع بدون وعي يتبنى ثقافة السادة والخدم، فالمساعدة في الأعمال المنزلية خلقت انقساما طبقيا بين النساء أنفسهن، بين سيدة المنزل والخادمة، فكثير من الخادمات يعملن في ظروف صعبة، وأحيانا غير إنسانية، ويتعرضن لتمييز طبقي داخل محيط الأسرة والمجتمع، ولكن سوق العمل لا يحرك ساكنا في قضايا العمالة المنزلية في كل دول العالم.