اعتدنا في يوم الاحتفال بيومنا الوطني أن نحتفي باستعراض تاريخ الوطن، ونتناول نشأته ككيان عظيم، ونستعيد قصة وحدة مناطقه، وانصهار قبائله لتشكل شعبا سعوديا واحدا، وانتصاره على الفقر والتناحر، فكان من جميل قدره أن هيأ الله له البطل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه، ليجمع شتاته في وطن واحد اسمه المملكة العربية السعودية، وذلك بفضل من الله وقوته، ثم بفضل جهاد المخلصين من رجالات الوطن الذين وقفوا مع المؤسس، ثم نصل إلى استعراض ما وصلنا إليه من تنمية ونهضة ونمو وبناء في كل المجالات، حتى أصبحت لبلادنا مكانة في العالم، وحضور باهر في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والمعرفة، نالت عليه احترام العالم وكسبت تقديره، وسجلت حضورا على كل الأصعدة، وزادها تشريفا مكانتها الدينية التي شرفها الله باحتضانها بيته المعظم «الكعبة المشرفة»، واحتضانها مكة المكرمة والمدينة المنورة أطهر بقاع الأرض.

لكن اسمحوا لي اليوم بعد هذه المقدمة ونحن نحتفي بيوم الوطن أن أكتب عن الوطن بطريقة مغايرة لما اعتدت عليه، وأكون فيما أكتب صادقا مع وطني ومواطنيه، الذين لا يمكن لي أن أضع أحدا منهم موضع الشك في وطنيته، ما لم يكن هو من يضع نفسه في موضع الشك من خلال تقصيره تجاه وطنه، أو باصطفافه مع أعداء الوطن ضد وطنه، أو تحوله إلى حربة تطعن في خاصرة الوطن، لذلك سأقول وبدون مواربة بكل صدق وأمانة ووضوح:

يجب أن نتعلم اليوم وغدا وكل يوم كما كان بالأمس الآباء والأجداد كيف نحب وطننا، ونخلص له، ونصدق معه، ونقف مع قادتنا في خندق واحد لرعاية مصالحه وحراسة مقدراته ونصرة مكتسباته وحفظ أمنه، وكيف نترجم حبنا له بالأعمال الصادقة قبل الأقوال التي تخرج من أفواهنا جميلة ومنمقة، فالأقوال وحدها لا تكفي لترجمة حب الوطن، ولذلك لا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يتعاطى الفساد بكل أشكاله وألوانه، فيبيح لنفسه أكل الأموال ظلما وعدوانا، أو نصرة الباطل زورا وافتراء، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يمارس التخريب تجاه الطبيعة والبيئة الحيوانية والنباتية، فيترك القاذورات والمخلفات في مواقع التنزه خلفه، فلا يغادرها بعد أن استمتع بها إلا وقد قلبها رأسا على عقب وأحالها إلى خراب، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يرتكب مجزرة بتحطيمه الأشجار بحجة الاحتطاب، ويسيء للغطاء النباتي مع أنه يحمي التربة من الانجراف والتعرية ويخفف من العواصف الرملية، أو يطارد الحيوانات والطيور في رحلة صيد جائر مع أن الدولة وضعتها داخل محميات طبيعية، بذلت الدولة من أجل حمايتها أموالا وجهودا، للمحافظة على التوازن البيئي والثروة الحيوانية من أجل تكاثرها، خاصة وبعضها شارف على الانقراض، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو من يسيء إلى مجتمعه إما بتشويه تاريخه أو السخرية من ماضيه أو النيل من قيمه وثوابته، في حماقة غير مبررة وتصرف غير مسؤول، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يلتزم الحياد تجاه قضايا وطنه وما يتعلق بأمنه وسيادته فلا حياد في قضايا تتعلق بالوطن، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يرتكب المخالفات المرورية معرضا حياته وحياة الآخرين للمخاطر، ولا يمكن لي أن أتفهم من يقول أنا أحب وطني وهو يقصّر في وظيفته التي يقبض عليها راتبا من الدولة، فيهمل في واجباتها ويتهاون في متطلباتها، وينسى أنها أمانة عظيمة أوكلت إليه وسيحاسب عليها بكل دقائقها وساعاتها.

وفي الختام وبعد كل هذا أقول: إن في سماء الوطن رجالا ونساء يُضرب بهم المثل في صدق مواطنتهم وحبهم لوطنهم وتفانيهم من أجله، تشهد لهم سيرتهم ومسيرتهم وسجلاتهم الحافلة بصدق ما قدموا، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

حقيقة يعجز قلمي عن حصرهم أو الحديث عنهم، لكنهم عاهدوا الله وما نكثوا في عهدهم ولا تأخروا في وعدهم وما قصروا فيما قدموا، وهم يقدمون دروسا وطنية في حب الوطن، ترجموها من خلالها حبهم له قولا وفعلا، خطتها صحائف تاريخنا المجيد بسطور كتبت بماء الذهب، وحق لها أن تبقى سطورا خالدة في مجلدات الوطن وأسفاره، من أجل أن يقرأها الأبناء والأحفاد وأعناقهم تطاول عنان السماء فخرا وعزا وشموخا، منذ عهد المؤسس طيب الله ثراه إلى يومنا هذا، فلنقتدِ بهم، بأولئك السابقين، ولنسر في إثرهم لنحافظ على ما قدموه من تضحيات ومكتسبات ومقدرات، حتى تركوا لنا أعظم وطن، ولهذا دعونا اليوم وغدا وكل يوم نجدد محبتنا للوطن قولا وفعلا، ونستشعر معنى المواطنة الصادقة التي تجعلنا نقدم التضحيات الغالية رخيصة في سبيل الدفاع عن حمى الوطن، ونعي ما يحاك في الخفاء، وما يدور من مؤامرات من أعدائنا جهرا وسرا ليعبثوا باستقرارنا؛ فلنبق أعيننا يقظة من أجل أن يبقى وطننا عزيزا شامخا قويا بمبادئه ومواقفه وولاة أمره وبشعبه العظيم الوفي لدينه ووطنه، ولقادته ولتوجهاته العادلة وسياساته المتزنة، فالدفاع عن الوطن أمر مقدس، فقولوا مع إشراقة شمس كل يوم جديد يطل عليكم اللهم احفظ لنا وعلينا ديننا وبلادنا وولاة أمرنا وشعبنا الوفي إلى يوم الدين.