لا أحد ينكر أن أمام الصحف الورقية اليوم -ليس في بلادنا، بل في كل بلاد العالم- جملة تحديات قد تعجل بتنازلها عن عرشها الإعلامي بكل وظائفه وانسحابها من المشهد، بعد أن ظلت تتربع عليه لعقود طويلة منذ ظهورها، حيث لعبت أدوارا في حياة الدول والشعوب، وهي تتطور من صحافة الأفراد إلى صحافة المؤسسات، ومن بين تلك التحديات التي تواجهها اليوم وتبدو كمؤشر ملموس يمكن رصده مؤذنا بخفوت وهج الصحف الورقية، تراجع أعداد توزيعها، وتناقص رقم الاشتراكات وقلة الإعلانات، وعدم قدرة بعضها على مواجهة تكاليف الطباعة والورق والأحبار التي تتزايد أسعارها عالميا، مما ترتب عليه رحيل بعض موظفيها، وتقليص عدد صفحاتها، وغياب كتابها.

هذا هو حال الصحافة الورقية في كل دول العالم التي تحاول وضع حلول لمواجهة واقع صحفها، ومما لا شك فيه أن لظهور الإنترنت، وبروز الثورة الرقمية وانتشار وسائل الإعلام الجديد، دورا في تضاؤل الإقبال على الصحف الورقية، واجتذاب الناس إلى المواقع الإلكترونية، بما فيها مواقع الأخبار والصحف، نظرا لسرعتها وتنوع وسائلها في تقديم الخبر والمعلومة وبطريقة جاذبة، وسهولة حفظ موادها وإرسالها وتبادلها مع الآخرين، وهذا واقع لا يمكن لأحد نكرانه.

هناك مثقفون طرحوا حلولا لإطالة عمر الصحف الورقية وإنقاذها مما لحق بها، ومن بين الحلول «الدعم المالي» لمساعدتها على مواجهة التكاليف المادية الباهظة، ولكن هل يبقى الدعم المادي الحل الوحيد لإطالة عمر الصحافة الورقية؟.

العارفون بأحوال الصحف الورقية، الذين ينظرون بواقعية لمجريات العالم المتغير بسرعة كبيرة، يشيرون إلى أن المال وحده لن يكون الحل الناجح لجعل الصحافة الورقية قادرة على الوقوف طويلا على قدميها، والدخول في منافسة مع وسائل الإعلام الجديد، رغم أهمية المال، لهذا دعوا المسؤولين عن الصحف الورقية إلى التجديد في أساليبها الخبرية والمقالية، واستقطاب الأقلام الجديدة، والمسارعة إلى نقل الصحافة الورقية إلى مواقعها الإلكترونية لمسايرة عصر الأجيال الحاضرة التي تتنفس التقنية التي تحكمت في كل تفاصيل حياتهم، سيما أن غالبية الصحف الورقية لها مواقع موجودة على شبكة الإنترنت، لكن يجب عليها أن تعمل على تحديث تلك المواقع، وتطويرها بما يتناسب والمرحلة التي تشهدها الثورة الرقمية، حتى تستطيع مواكبة الصحف الإلكترونية التي سبقتها، بل تعمل على منافستها والتفوق عليها.

على أي حال ما ينبغي معرفته وبعض الصحف الورقية تستعد للتحول إلكترونيا تدريجيا كونه خيارا لا مفر منه، أن الصحف الإلكترونية التي سبقتها لا تتفوق على الصحف الورقية كلية، أو أنها كانت قادرة على الإنتاج لكثير من موادها التحريرية دون أن تستعين بما تنشره الصحافة الورقية، فلم يكن للصحافة الإلكترونية من ميزة تحسب لها سوى تميزها بعامل السرعة والمباشرة في التعاطي مع الأحداث والأخبار، ربما هذا العامل الوحيد الذي يمكن أن يحسب لتفوقها، لكن ذلك لا يكفي ليميزها، خاصة أن اعتمادها لا يزال مرهونا بنسبة 90% على ما تنشره الصحافة الورقية من مواد خبرية ومقالات واستطلاعات وتحقيقات مزودة بالصور والأحداث المتصلة بها، علاوة على ما يحسب للصحف الورقية من مصداقية ووضوح، وندرة قبولها للإشاعات أو الأخبار الكاذبة والملفقة، أو المواد التي لا تحمل مصادر صحيحة أو معروفة، وذلك لخضوع موادها للتدقيق والإشراف من منطلق المسؤولية الإعلامية التي تعمل من خلالها، لهذا فكثيرون يتوقعون أنه فيما لو تحولت الصحف الورقية إلى صحف إلكترونية، ومعظمها جاهز لهذه النقلة، فذلك سيزيد من انتشارها وسيسهم في تخطيها الحدود لتصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء في ظل تزايد مستخدمي شبكة النت حول العالم، وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي سيزيد من التفاعل مع الصحف الورقية، وأنا أتوقع أن صحفا إلكترونية كثيرة ستنتهي، خاصة أن بعضها تدار بأساليب تقليدية، ويشرف عليها أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام، أو ليس لهم قبول في المجتمع!.

أختم مقالي معترفا بأنني سأظل أعيش تحت وطأة الحنين للصحف الورقية لارتباطي بها منذ باكورة عمري، مستذكرا أيام كانت «الجريدة الورقية» رفيقة المثقفين والمتعلمين، ومشهد باعة الصحف في دول عربية يذرعون الطرقات قبيل الفجر وهم يقرؤون أهم عناوينها، ومشهد أكشاك الصحف وتلك الأرصفة التي تعرض أهم الصحف والمجلات، سقى الله ذاك الزمن الذي كنا نستنشق فيه أحبار الجرائد كعطر فواح يلازمنا معظم أوقاتنا.