الإمام الماوردي، القاضي والفقيه المشهور، أحد أبرز علماء القرن الرابع الهجري، يضع في صفحة رقم: 217، من كتابه

(أدب الدنيا والدين)، الذي مهد به لكتابه الشهير (الأحكام السلطانية)، تحت عنوان (في قواعد صلاح الدنيا) ستة أسس للحياة الاجتماعية المثلى، أوضحها بقوله «اعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء، هي قواعدها وإن تفرعت: دينٌ متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخِصب دائم، وأملٌ فسيح»؛ ثم يعرف السلطان القاهر قائلا: «الذي تتألف برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكف بسطوته الأيدي الغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعاندة..». وفي نفس السياق ينظم أبو البقاء الرندي، المحدث والفقيه والشاعر المعروف، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وكان شاهدا على الاضطرابات التي حدثت في عصره؛ مرثية رائعة رثى بها بلاد الأندلس، يقول في مطلعها: «لـكــل شيء إذا ما تمَّ نقصـان * فلايغـرّ بطيب العيش إنســــانُ»، وبعد جملة أبيات مؤلمة يقول متأسفا على الحال والمآل: «بالأمس كانوا مُلُوكاً في منازلهم * واليوم هم في ديار الكفر عبـــدان»؛ والمتمعن في النثر والنظم يفهم وبوضوح قيمة أن يلتقي الناس على حاكم، يطيعونه ويحتكمون إليه، ويكون بالنسبة لهم عامل وحدة واجتماع وتلاق وتعاضد، ويفهم كذلك قيمة الوطن عند الإنسان السوي، وأن عاقبة فقدانه له لن تكون إلا الهوان والشتات والحسرة والذل، بعكس ما يدعيه المأجورون والمخربون والغدارون.

في القاهرة، وقبل نحو أسبوعين، نوه وزيرنا المسؤول عن الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، وأخوه وزير الأوقاف المصري الدكتور محمد مختار جمعة، ومعهما من شارك في المؤتمر الثلاثين للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي نظمته وزارة الأوقاف المصرية تحت عنوان «فقه بناء الدول، رؤية فقهية عصرية»؛ بالمعاني المتقدمة، وأن صوت الدولة لا بد أن يكون عاليًا وقويا، وأن يكون سيفها مصلتا على رقاب الخونة والعملاء والمفسدين، ومن يدعمهم، أو يتستر عليهم، من أصحاب مشاريع التخريب النتنة؛ ولعل من أبرز ما تم الوصول إليه في ذات اللقاء، إصدار علماء الأمة ومفكريها والمفتين والعلماء والباحثين والكتاب بالإجماع (وثيقة القاهرة للمواطنة) التي أتمنى أن يعم نفعها، وينتشر خبرها، وترتب لها آليات إنجاحها، ولا سيما أن مضامينها التسعة تعد قراءة جديدة لمفهوم المواطنة، وتتجاوز بها موضوع تقبل المختلف دينيًا إلى تقبل التنوع واعتباره ثراء للمجتمع، وأن التعددية مصدر قوة للدول، وأن التعايش السلمي بين أبناء الدول يعد أحد أهم عوامل أمنهم واستقرارهم، وعليهم في هذا السبيل أن يكونوا على قلب واحد في حماية أوطانهم والدفاع عنها، وكشف المختبئين والضالين، حتى لا يصيبهم ما ذكره أبو البقاء الرندي، لا قدر الله تعالى.