تكتسي بعض الأمور والأفكار بقداسة وهمية تكسبها حساسية نقاشها والخوض فيها رغم غرابتها والاستفهامات العديدة من حولها، بالرغم من أنها أمور بسيطة وشرح معانيها لا يتعارض مع تلك القداسة الوهمية أبداً، بل إن نقاشها وفهم معانيها وتفكيكها قد يصحح المفاهيم المغلوطة عنها. من أبرز تلك المعتقدات أو الأفكار تلك التي تقول: «الدين أولاً ثم الوطن»، والمتأمل لهذه العباراة يجدها متضاربة، فالدين والوطن متجانسان لا يستغني الأول عن الثاني، ويعتبران من أساسيات حياة الأفراد. كما أن الفقهاء وعلماء الدين وضعوا مكانة وقيمة الوطن إزاء الدين. وقد يطغى الأول على الثاني لعدة اعتبارات. أولاً من الناحية الشرعية في آيات الله سبحانه من الذكر الحكيم والسنة، إذ جاء في سورة الأنفال: (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالك من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق والله بما تعملون بصير). وهذا اختصار للسياسة الدولية المعمول بها اليوم. يقول سبحانه إن الذين آمنوا بدين محمد وشهدوا أن لا إله إلا الله، ثم لم يهاجروا إلى بلاد الإسلام، فمالك من ولايتهم من شيء، بمعنى أنه لا شأن لك بهم بما أنهم ليسو في دارك، وإن استنصروك بالدين، أي طلبوا النصرة على أهل الدار التي يسكنوها، فعليك نصرتهم بحكم الرابط الديني بينكم (إلا) -هناك استثناءات- إلا على قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق، أي أهل تلك الدار وإن كانوا لا يدينون بالإسلام وبينك وبينهم عهد وميثاق، فلا تنصروا أهل الدين المسلمين وتحاربوا عدوهم الكافر، إنما لو كان المؤمن من أهل الدار، واُعتدي عليه فينقض العهد وينصر هذا الإنسان المسلم. وهنا دلالة واضحة على تقديم القرآن الكريم الوطن أولاً، إذ رجح كفة الدار هنا والمكان على كفة الدين. كما أثبتت السنة النبوية ذلك، ولك أيها القارئ حرية البحث والاستنتاج من سياسة المصطفى مع جيرانه ويهود المدينة، إذ لا مجال لسرد تلك العبر. ثانياً والأهم، نحن في وطن هو منبع الوحي وقبلة المسلمين، وملكه خادم الحرمين الشريفين، فإذا ما تضرر الوطن وخسرته، سوف تخسر معه دينك، لأنك إذا دخلت دوامة الصراع، وعشت جحيم الحروب ستتعرض للتهجير، ولن تستطيع ممارسة شعائر دينك بكل أريحية كما تفعلها اليوم في وطنك، وتحافظ على الدين وتصونه. ولنا في المهاجرين العرب الذين تضررت أوطانهم جراء الحروب، مثال على حاجتنا للالتفاف حول بلادنا المستهدفة من أعداء نجاحها. اليوم أعداؤنا بالدرجة الأولى دول تدين بديننا، الأولى دولة إرهابية تقصف منشآتنا شرقاً، ومراكزنا الحيوية جنوباً، في حلم للتغلغل بمنطقتنا العربية، واستعادة الإمبراطورية الفارسية، وآخرها تعرض منشآت النفط لهجوم إرهابي من إيران، وكانت ردة الفعل العالمية شجب واستنكار، ما عدا العدو الثاني «التركي» الذي أيد هذا الهجوم وأبدى شماتة، ولو كان له من الأمر شيء، ساهم في قصفنا، لأن له هو الآخر حلما في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، ولكنه جعل حربه على وطننا بطرق وأساليب أخرى. تختلف أهداف هؤلاء الأعداء وطموحاتهم، ويتفقون في كره العرق العربي، لا يبالون بالدين الإسلامي الذي نشاركهم فيه، بمعنى أنه لو حانت لهم الفرصة لن يتوانوا في القضاء علينا، مهمشين الدين الذي ندين به. ومع ذلك وبكل أسف لا زال منا بعض السذج الذين إلى الآن يجهلون تاريخ هذين العدوين، يمجدونهما، بأنهما مسلمان، وبالرغم من أنهم فئه قليلة إلا أن توعيتهم ضرورية. هؤلاء تأثروا بتاريخ قبل مئات السنين، ولم يستوعبوا المتغيرات وما يعيشه الوطن من فتن ومؤامرات تحاك ضده، لكونهم بعيدين عن الأحداث السياسية، ويرددون، الدين ثم الوطن، ويحلمون بأمجاد عفى عليها الزمن، ولا سبيل لعودتها، فينصتون لأعداء الوطن وأعوانهم من جماعة الإخوان ومثيري الفتن، ويصدقون ما يقولونه بجهلهم، خاصة مع الانفتاح الذي يعيشه وطننا، تضاعفت أصوات أولئك الأعداء وزاد نباحهم واتخذوا الدين سلاحا ضد وطننا. الأسوأ من ذلك، أن ممن يناصبوننا العداء دولا مسلمة وأيضاً عربية ومن بني جلدتنا كذلك!.السؤال هنا، هل نغلق أعيننا كمواطنين، نغفل عن أمن بلادنا ونقول الدين أولاً؟! نحن كشعب مسلم واع، على ثقة بأن المواطنة لا تتعارض مع الدين، بل قد تكون نصرة له، إذا ما كان عدونا هو عدو الدين نفسه. ونحن أيضاً على ثقة بأن الله سبحانه وتعالى تفضل على هذا الوطن، بأن تكفل بحفظه، بعدما سخر له رجال يقومون بحمايته وحفظ أمنه ولا خوف عليه، ولكن لا بد من الوعي في هذا الجانب وإدراك مخاطره، فالمؤمن الجاهل سيغرق، والكافر المتعلم سينجو، الله لا يحابي الجهلاء. علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا بما يصلح مع وطننا، الذي فيه صيانة لديننا وعقيدتنا أولاً ثم وطننا.