الغزو الفكري، الغزو الاقتصادي، الغزو الاجتماعي، الغزو..... الغزو...... إلخ من معارك بدأتها الحركات اليسارية في العالم العربي للحصول على حق تقرير المصير كشعوب تبحث عن الاستقلال، وبعد الاستقلال ما زالت كلمة الغزو تتردد عالقة في الأذهان، قد تتناسب هذه الكلمة لصناعة خطاب ديماغوجي سياسي دهمائي، لكنها قطعا لا تقدم ولا تؤخر في طرح شيء حقيقي وموضوعي لصالح فكر النهضة العربية بالمعنى (القُطري)، والذي سينعكس إيجابا على مجموعة الدول العربية دون الحاجة لمزايدات قومية تعيدنا للمربع الأول، فماليزيا التي أشغلنا (الإسلاميون) بنهضتها وإيهام القارئ بأن السبب في ذلك ديني، نجد في حقيقة علم الاقتصاد الذي لا يعترف بديانة ولا بلون، أن ماليزيا انطلقت في نهضتها عبر المحاكاة المباشرة لاقتصادات النمور الآسيوية الأربعة (سنغافورة، تايوان، كوريا الجنوبية، هونج كونج)، وليس عبر فذلكات ما سمي (الاقتصاد الإسلامي) الذي يرتكز على حيل فقهية تعمل في خدمة الفكر الرأسمالي ورمزها (البنك)، والذي تترجمه بعض البنوك باسم (مصرف) كأنما الحقيقة الرأسمالية المتوحشة ستتوارى خلف (التعريب ولعبة الأسلمة).

أعود لكلمة غزو التي تصيب العقل بالشلل، فالبنوك يشتكي منها كل مواطن في العالم دون استثناء، فلا يوجد غزو اقتصادي يخص بلدا دون آخر، لكنها منظومة عالمية تسبب كساداً في حين ونمواً في أحيان أخرى، بسبب يعرفه المتخصصون أكثر مما يتوهمه أصحاب نظرية المؤامرة، وتبقى الدول العظمى تؤكد حقيقة ارتباط الحق بالقوة في أحيان كثيرة، ولكن لا علاقة لهذا الارتباط بأقدار لازبة، فقد كانت أميركا مستعمرة بريطانية، والآن بريطانيا تسير في ظل أميركا، وليس أمامها.

آخر صرعات كلمة (غزو) أن هناك غزواً من الغرب عبر الموسيقى، وبهذا الهوس والسخف فمن الأكيد أن هناك غزواً من الغرب عبر اختراع الجوال وبيعه لنا، وعبر وسائل التواصل التي وفرها الغرب لنا، وعبر برنامج جوجل.... متناسين أن كل هذا يشكل حقيقة العولمة المتمثلة في سلطة الشركات العابرة للقارات أكثر من سلطة الدول المحدودة بجغرافيا وإقليم، الغزو يمكن أن يحصل بين أقوياء كبار يتنازعون النفوذ الدولي، أو أقوياء صغار يتنازعون النفوذ الإقليمي، وكل هذه النزاعات تسير وفق توجهات يسيطر فيها الكبار على (كل شيء تقريبا)، أما الأقوياء الصغار فيسيرون في ظل هذا أو ذاك.

الغزو الفكري من الغرب كلمة ربما تصلح للاستهلاك أيام الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أما في هذا القرن الحادي والعشرين فهي كلمة مشاع ومنتشرة في كل بقاع الأرض، فالبريطاني يشتكي من غزو الإسلاميين لشوارع لندن، وظهور أحياء إسلامية كاملة بمدارسها الخاصة في بعض أرجاء أوروبا تخيف الأوروبيين عبر ثقافتها المنغلقة كفيتو عاجز عن الاندماج في مجتمع قدَّم له الجنسية والمواطنة.... إلخ، ولهذا فمبررات الغربي في دعوى الغزو أكبر من مبررات غيره، فالمساجد منتشرة في كل بقاع أوروبا، والنظام السياسي الغربي يحفظ (حرية المعتقد) فيما لو تحول مواطن فرنسي أو أميركي أو بريطاني مثلا من المسيحية للإسلام، وربما التحق بداعش، فمن الذي يخاف الغزو أكثر؟! بلد يعيش وفق معايير حقوق الإنسان العالمية حتى في احترام حرية مواطنيه في تبديل دينهم، أم بلاد تعيش في أسفل سلم حقوق الإنسان لتراها ترتبك في التصرف مع أحد مواطنيها فيما لو تحول من مذهب الأكثرية إلى مذهب الأقلية في نفس الدين.

أميركا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا تتصارع فيما بينها وفق ثقافة راشدة لا تخلق صينياً يفجر نفسه في طائرة أميركية، أو أميركيا يفجر نفسه في قطار صيني، ولن تجد روسياً يهاجم بسيارته مجموعة من البريطانيين الراجلين في أحد الشوارع، ولم نسمع بميليشيا يابانية تقرر الانتقام من أميركا بسبب أكبر قنبلتين في التاريخ تلقى على المدن، ولم نسمع بميليشيا فرنسية مشغولة بالانتقام من إرث النازية الألماني.

عفوا فكل أدبيات الإخوان المسلمين وما أنتجه الإسلام السياسي من أدبيات يشل القدرة الطبيعية للفرد على التفكير والنقد والتحليل، فذهنية المؤامرة ضربت بكلكلها على معظم التحليلات، فها هي ألمانيا بعرقها الآري استطاعت أن تتوحد، وما زال العرق الآري الألماني يستطيع أن يحقق إنجازه في أن يكون من أقوى اقتصادات دول أوروبا، فأين المؤامرة اليهودية في الانتقام وتصفية الحسابات واللعب بالاقتصاد الألماني وجعله فقيرا بائسا، رغم أن الثأر اليهودي (وفق العقل العربي الإسلامي) يستوجب النقمة الأبدية من ألمانيا ومن كل عرق آري تزعمه هتلر في يوم من الأيام.

مساحة المقال انتهت ولم ينته الألم من سفسطات يمارسها الإسلاميون الجدد عبر إنتاج قاموس ممانعة جديد ليستبدلوا كلمة الحفاظ على (الإسلام) (الخاص بهم) بالحفاظ على (الهوية) (الخاصة بهم) أيضا، رغم أن كلمة (الهوية) تحتاج من الإسلاميين استبدال كلمة (الجماعة) في أدبياتهم بكلمة (المجتمع)، فإذا فهموا الفرق بين مفردة (المجتمع) وكلمة (الجماعة) فسيعرفون آنذاك معنى دولة حديثة ومعنى كلمة مواطن، وعتبي على الناقد النابه (محمد العباس) الذي انشغل في مقاله بالشرق الأوسط (فراغ ما بعد الصحوة) بتوصيف الحال أكثر من تفكيك المجال التداولي الذي ما زالت تتمظهر من خلاله الصحوة في قاموس (حداثي، وما بعد حداثي)، فالنضال الفكري ضد (الرجعية الفكرية) موجود في كل العالم حتى في الغرب نفسه، فهل ننسى أن جامعة نيويورك طردت برتراند رسل من عمله كمحاضر فيها عام 1940 بقرار قضائي، بحجة أنه فاسد أخلاقيا، وفي التفاصيل تظهر أصابع الظلام باسم المسيحية كما ظهرت في حادثة سعيد السريحي باسم الإسلام، والأديان التوحيدية براء منها، لكن الظلام واحد سواء جاء بقلنسوة أو عمامة، وفي كتاب كارل ساجان (العالم مليء بالشياطين) عديد الأمثلة لهذا النضال الذي ما زال الغرب يعيشه ضد التجهيل باسم الدين، لكن الفرق بيننا وبينهم أن المناعة الاجتماعية أعلى وقيم الحرية أعمق، والالتزام بمسؤوليات الحرية عالٍ، وعلى رأسها الحرية الأكاديمية العلمية (وليس حرية العمل الحزبي داخل الجامعة)، مما جعلهم أسياد الحضارة حتى الآن، فإن عجزوا عن ذلك وأحرقوا كتب فلاسفتهم كما أحرق غيرهم كتب ابن رشد، فستأتي أمم حرة لتختطف المنجز الغربي وتضيفه لرصيدها وتمسك زمام المعنى الحضاري، وبعضنا ما زال في أوهام الغزو عبر الموسيقى والغزو عبر الملابس الرياضية.

يحرصون على كلمة (الجماعة) أكثر من حرصهم على كلمة (المجتمع)، ولهذا هم يعيشون غرائز (القبيلة) عاجزين عن إدراك عقل (الدولة)، ولهذا فالنضال الفكري ضد تلونات الإسلام السياسي سيبقى مستمرا، سواء ظهرت التلونات باسم الصحوة أو السرورية أو الإخوانية أو حتى حملت الجنسية السويسرية، وظهرت على شكل محاضرة أكسفوردية تخرج من فم (طارق رمضان) وهي ترطن بلسانين وتلتحف الثقافتين الفرانكفونية والإنجلوساكسونية، أما الصحوة بالمعنى الضيق ضد التلفاز والدش والشعر والرواية والأغاني، فالقرار السياسي يعرف صنبورها وقد أغلقه، يجمعها الطبل وتفرقها العصا.