وصف عالم الفضاء المصري الأميركي فاروق الباز جيله بجيل الفشل، وإذا كان الباز قد حصل على الدكتوراه وبدأ رحلته العملية والعلمية في ستينات القرن الماضي فإن جيله هو الجيل الذي شهد ذروة العمل القومي العربي وحركات الاستقلال في معظم دول العالم العربي، وتحدث فاروق الباز عن جيل الفشل العربي كحالة في 2006، موضحا أنه كانت هناك أهداف أربعة أكيدة المنال، فشل القادة والساسة وأهل الفكر والأحلام في أيامه في تحقيقها هي: وحدة الدول العربية، وتحرير فلسطين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحو الأمية، أما أسباب الخيبة والفشل الجماعي فكثيرة أهمها الاعتماد على دعم المؤسسات الواهية وإهمال بناء واحترام الإنسان القادر على القيام بالعمل، وانتشار اللغو والفساد وتخدير المواطنين بطنين إنجازات كاذبة واعتماد الثورات على أهل الثقة بدل أهل الخبرة والمعرفة، ومشاريع الوحدة العربية جاءت بناء على شعور عاطفي من دون دراسة وتحليل وتحديد النتائج الإيجابية لكل جانب، واللجوء إلى الحل العسكري في حروب فلسطين دهور أوضاع المؤسسات المدنية، وانحسر التقدم الاقتصادي، وتردت الأوضاع بعامة تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» الذي كمّم الأفواه ومنع الأسئلة.

بعد مضي أكثر من خمسة عقود على تجارب الوحدة العربية الفاشلة فقد الناس إيمانهم بالمشاريع القومية واتجهوا خلف شعارات الإسلام السياسي التي انطلقت إرهاصاتها مع النكسة، وتمددت بالسبيعينات دون الخوض في التفاصيل الآن، إلى أن ارتفع صوتها في التسعينات الميلادية إبان أزمة الخليج، وظهرت على السطح الحركات الإسلامية والإخوان في مصر والجزائر والسودان وتونس وسورية والأردن والكويت، ثم تنظيم القاعدة بقواعده الخلفية المساندة في السعودية واليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وتحولت بعد ذلك إلى قواعد مواجهة وانتشرت عملياتها في الدول العربية وإفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا، وبعدها جاءت داعش، وشيعيا كان حزب الله والفصائل في العراق والحوثيون في اليمن وتصدير الثورة من إيران، ووصلت الشعوب العربية الحالمة بالوحدة إلى نفس الإحباط الذي عانته من التجارب القومية، لكنها لم تستغرق نفس الفترة الطويلة التي استغرقتها القومية، لأن قعقعة السلاح في الإسلام السياسي كانت أقوى والدماء أكثر تلطيخا في جدران الأمة العربية وخارجها، فبدأ الانكفاء الإقليمي مرة أخرى، وبدأت الشعوب تكفر بالمشاريع القومية والأممية، واتجهت إلى التركيز على معاناتها داخل حدودها، وحدثت الثورات مع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وركبت الأحزاب الدينية والسياسية الثورة واختطفتها، ونجح بعضهم وفشل الآخر، ومن نجح لم يعمر طويلا، إذ اكتشفت الشعوب الخدعة فقامت بثورة مضادة في السودان ومصر مع التخلص من المشاريع القومية الفاشلة في العراق وسورية وليبيا واليمن.

والآن بعد أن انتهت كل هذه المراحل القومية والأممية وعادت الدول العربية إلى حدودها الإقليمية الهشة نستحضر عبارة الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي «إن الأزمة الحقيقية تبدأ حين يموت القديم ولا يتشكل الجديد»، فما هو واقعنا الآن وكيف نستشرف المستقبل القريب على الأقل؟

العالم الآن لم يعد هو العالم منذ عقد من الزمان، والعالم العربي لم يعد كما كان قبل عشر سنوات، والسعودية اليوم هي غير السعودية قبل خمس سنوات، وهذا شيء يدركه السياسيون والاقتصاديون والمحللون وعبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته 2018 أمام الزعماء حين أبدى مخاوفه الصريحة من احتمال انهيار النظام العالمي الحالي، وكان دونالد ترمب أكثر وضوحا حين أعلن أنه لم يعد يفكر في التحالفات القائمة وإنما أطلق شعار «أميركا أولاً»، وطالب جميع زعماء الدول بأن يضعوا مصالح بلدانهم أولاً، ودخل شعاره حيز التنفيذ فأخرج الصين والهند من قائمة الدول التي تحصل على معاملة خاصة، وألغى الاتفاق النووي وصرح بإعادة النظر في حلف الأطلسي، والقادة الأوروبيون وصلتهم الرسالة، وظهر الصدى سريعا في مؤتمر سياسة البرلمان الأوروبي في سان سباستيان بإسبانيا في يونيو الماضي حين أجمع المؤتمرون على التركيز على حماية مشروع الاتحاد/‏‏ الوحدة الأوروبية الذي تبنته وصارت ترمز إليه بدلا من تشتيت الجهود في الحديث عن مكانة أوروبا وقوتها، لأن المخاطر باتت أشد وأصعب، ووفقا لأحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «يوغوف» والمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أكد أغلب المشاركين في 11 دولة من أصل 14 أنهم يتوقعون انهيار الاتحاد الأوروبي في غضون السنوات العشر إلى العشرين المقبلة، وشكل ذلك صدمة لمعظم المراقبين والباحثين لمشروع اعتبر ذات يوم نموذج الأمل للتكتلات الدولية في عصر العولمة، وللتعاون العالمي القائم على القيم المشتركة، ولكنه أصبح اليوم موضع شك كبير.

ومن جانب آخر بدأ المفكرون الإستراتيجيون في أوروبا يفكرون بقلق في مسألتين هما: تفكك الاتحاد الأوروبي وما الذي يحدث بعده خاصة مع البريكست، والأكثر إزعاجا لهم ماذا لو تخلت الولايات المتحدة عن حلف الأطلسي، كما أن الشراكة الأوروبية الأوروبية التي كانت من المسلمات أصبحت محل جدل ونقاش في كل مؤتمر، وآخرها في مؤتمر الدول السبع في فرنسا في يونيو الماضي حين أعلن ترمب أن نظام التجارة برمته غير ملائم لأميركا، وهدد بإيقاف التجارة معهم.

عربيا ما زالت منظمات العمل العربي المشترك ترزح في إطار اللقاء البروتوكولي والتنسيق الشكلي تحت مظلة جامعة الدول العربية التي تنادى الجميع منذ عقود بضرورة إصلاحها، مع أنها في رأيي عصية على الإصلاح تبعا لدول الجامعة نفسها التي تحتاج الإصلاح قبلا، والتعاون المغاربي أسوأ حالا في ظل الخلافات العميقة بين أعضائه، ومجلس التعاون الخليجي انحسر عن 3 دول كونت فيما بينها نوعا من التحالف الحقيقي والبقية على تفاوت، وصار المعول عليه في العلاقات بين الدول العربية هو العلاقات البينية المحكومة بالمصالح القطرية والتجاذبات الدولية وضغوطات الحراك الحزبي والإثني داخل كل دولة.