مثل وصول فلاديمير بوتين إلى رأس السلطة في روسيا عام 2000 حقبة جديدة في سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط، حيث اختلفت سياساته تجاه هذه المنطقة بشكل ملحوظ عن النهج السوفييتي، فعلى عكس السياسة الخارجية السوفييتية التي كانت ذات طبيعة أيديولوجية قوية، وكانت تسعى إلى نشر الأفكار الشيوعية عبر البلدان ذات الاهتمام، فإن السياسة الروسية التي جاءت بعد مرحلة السوفييتية لم تكن ذات طبيعة أيديولوجية، بل تعد سياسة براجماتية تستند إلى فلسفة «القومية البراجماتية» مع اعتبار قوي لمفاهيم الأمن القومي والسيادة.

هذا النهج الذكي ركز على تحسين الاقتصاد والتكامل الأمني وتعزيز العلاقات الدولية، دون فرض للقيم الروسية على البلدان الأخرى سواء كانت تلك القيم سياسية أو أيديولوجية أو ثقافية.

واليوم تنظر الحكومات العربية إلى منهج بوتين بشكل إيجابي، وتركز روسيا المعاصرة على تعزيز العلاقات في دول مؤثرة في الشرق الأوسط وأهمها السعودية، حيث تستند هذه العلاقات على التكنولوجيا العسكرية والطاقة، إلى جانب الدعم السياسي والدبلوماسي للحلفاء الإقليميين في القضايا الرئيسة التي تتلاقى فيها المصالح المشتركة.

تعديلات ناجحة

تعمل السياسة الخارجية الروسية الجديدة على إعادة إحياء تقاليدها التاريخية، ولكن بتعديلات ناجحة تلائم الاحتياجات الناشئة حديثاً في العلاقات الدولية، وقد كان الشرق الأوسط «أرضية اختبار» لتعديلاتها تلك.

في ضوء هذه الحقيقة، يجري تعديل السياسة الخارجية الروسية استجابةً للتغيرات في الوضع العالمي، ولوضع روسيا في العالم الحديث، حيث إن هذا التحول يعد نتيجة كل من الظروف الموضوعية والذاتية والدولية التي مرت بها روسيا.

أهم حقيقة موضوعية هي أن روسيا تعد أكبر قوة في أوروبا من حيث المساحة وتعداد السكان والتأثير السياسي والثقافي، والأهم من ذلك أن روسيا تشكل قوة عسكرية تماشياً مع النمط الذي شكله لها تاريخها، كما أنها تحافظ على تقاليدها الوطنية والثقافية الأصيلة. لكن على الرغم من أن هذه المقاييس كانت ذات أهمية أثناء «العصر الأوروبي الطويل» للسياسة العالمية الذي استمر منذ القرن الـ16 إلى أوائل القرن الـ21، فإن نظام السياسة العالمي اختلف اليوم، إلى جانب أيضا اختلاف المعايير السياسية العالمية، ومن الجلي أن روسيا تطور مزاياها لتتلاءم مع مقاييس نظام السياسة العالمية الجديد بإيجاد مكانة قديرة فيه.

نقطة تحول

بعد فترة ركود مرت بها العلاقات السعودية الروسية، حصلت حادثة تحرير رهائن الطائرة الروسية المختطفة من مطار أتاتورك إلى المدينة المنورة، وقتها عرضت روسيا على المملكة إرسال وحدات عسكرية متخصصة في حوادث احتجاز الرهائن، ولكن المملكة رفضت، واستعانت بقوات محلية لتحرير أولئك الرهائن بأخف الأضرار، والقبض على الخاطفين الشيشانيين.

شكر الرئيس فلاديمير بوتين الملك فهد بن عبدالعزيز حينئذ، وأثنى على تعامل القوات السعودية مع الحادثة.

وفي نفس العام 2001، وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وما حدث بعدها من «ابتزاز دولي» للمملكة كما يصفه السفير الروسي لدى المملكة آنذاك أندري باكلانوف، وساندت روسيا السعودية ضد مزاعم الإرهاب في المجتمع الدولي، وانتقد ياسترجيمبسكي مساعد بوتين في صحيفة «الشرق الأوسط» ذلك الحين، المعايير الغربية غير المنصفة في توجيه تهم الإرهاب إلى العالم الإسلامي، وإحداث الانقسامات.

ومع ذلك، بقيت العلاقات بين روسيا والسعودية في فترة خمود.

يذكر جينادي تاراسوف، وهو أول سفير لروسيا لدى المملكة في لقاء له، بأن معاودة استئناف العلاقات الروسية السعودية كانت حرجة، ويضيف: «عندما وصلنا إلى السعودية كانت بلادا أخرى تماما بالنسبة لنا؛ لأننا لم نكن نعرف شيئا عنها، ولم يكونوا يعرفوا عنا أي شيء، ولم تكن هناك اتصالات، لذا كان علينا أن نبدأ من الصفر، كنا نعمل على إنشاء السفارة، وكانت معظمها صعوبات فنية، فعلى سبيل المثال لم يكن بين البلدين خط اتصال هاتفي، لذلك كنا نقوم بالاتصال الهاتفي عبر المحيط، إضافة إلى ذلك لم يكن هناك اتصال تلكس وفاكس، ولكننا شعرنا باهتمام كبير تجاهنا منذ الساعات الأولى لوصولنا إلى المملكة من قبل السلطات السعودية والمجتمع ككل، وهذا أمر بديهي في ظل غياب العلاقات 50 عاما كاملة، لذا شعرنا أيضا بالتعاطف والدعم، حيث كان الاهتمام متبادلا من الطرفين».

بعد تلك الحوادث، زار الملك عبدالله بن عبدالعزيز حين كان ولياً للعهد سنة 2003 روسيا الاتحادية، وكانت هذه الزيارة تحديداً نقطة تحول في العلاقات، وفاتحة خير لعودة العلاقات بين البلدين.

انعطاف تاريخي

يقول رئيس قسم العلاقات الدولية دميتري ماكروف في صحيفة «حجج وبراهين» الروسية، في تعليقه على زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز التاريخية إلى موسكو، بعد فترة انقطاع ممتدة: «وعلى ضوء ذلك لا أبالغ إن قلت إن حالة الانعطاف النوعية الإيجابية التي يمكن أن تحققها زيارة الأمير (الملك) عبدالله إلى موسكو تماثل صعود جارين إلى الفضاء؛ لأن مثل هذه الزيارة كانت شبه مستحيلة قبل بضع عشرات السنين، وها هو العالم يتغير بديناميكية كبيرة، وما كان بالأمس غير ممكن أصبح اليوم ضرورة ملحة للطرفين».

لقد أوضح الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ في تلك الزيارة موقف المملكة من الحركات المتمردة في القوقاز منذ الحربين الشيشانية، وبأن المملكة تعد الشيشان جزءاً من الأراضي السيادية الروسية، وبأن ثمة مؤسسات تخريبية مستعارة ليست حكومية ولا تدعمها حكومة المملكة تسببت في توتر العلاقات بين البلدين، وكان هناك بيان مشترك في منظمة المؤتمر الإسلامي حول حل النزاع الشيشاني حتى وُضعت خاتمة إيجابية له.

كانت أساسات زيارة الملك عبدالله قائمة على التعاون في مكافحة الإرهاب الذي عانت السعودية منه على المستوى الداخلي، وخارطة طريق لحل القضية الفلسطينية الإسرائيلية، وحرب العراق، إضافة إلى مسائل النفط والطاقة.

برزت أهمية زيارته لروسيا ذلك الحين إلى كون روسيا راعية ثانية لعملية السلام التي أُطلقت عام 1991 في مدريد، وباعتبارها عضوا من أعضاء اللجنة الرباعية الدولية لخارطة الطريق، ثم جاءت مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للسلام 2002 التي تبنتها جامعة الدول العربية فيما بعد، وقد سبقتها مبادرة الملك فهد بن عبدالعزيز في فاس 1981 (كان أميراً وقتها)، وما زالت روسيا تتبنى مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز كحلّ للسلام حتى اليوم، كما أكدت على ذلك في القمة الثلاثية في القدس 2019.

قوة كبرى

يعد الكرملين علاقته مع السعودية علاقة عالية ورفيعة المستوى مقارنةً بباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وينظر الرئيس بوتين إلى الرياض كقوة إقليمية كبرى، وقد زارها عام 2007، وحينئذ كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أميراً للرياض.

وتمتلك الرياض كثيراً من أدوات القوة تحت تصرفها بفضل مراكزها الدينية، وثرواتها الهيدروكربونية، وتأثيرها على أسواق الطاقة العالمية، إضافة إلى أنها تمتلك واحداً من أغنى وأقوى الجيوش في العالم العربي، حيث إن التعاون بين البلدين يمكن أن يعزز مكانة روسيا داخل المنطقة.

الرياض من جهتها تعترف أيضاً بأهمية وجود موسكو في استقرار الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط؛ باعتبارها لاعباً قوياً في أسواق الطاقة العالمية، وبالتالي تتطلع إلى زيادة التعاون الإستراتيجي والاقتصادي لضمان علاقات ودية طويلة.

تنسيق المواقف

بدأت هيمنة الولايات المتحدة لوحدها كمزود أمن رئيس في المنطقة والتي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي وتزايدت مع غزو العراق عام 2003 تتلاشى إلى الخلف، وتدرك موسكو حجم مسؤوليتها وأدوارها المطلوبة بعد هذا التراجع، كما أنها تعي بأن زيادة تطوير وجودها في الشرق الأوسط تستلزم الحاجة إلى تنسيق المواقف مع اللاعبين الإقليميين جميعهم، دون تجاهل أي طرف أو زيادة العداوات بين الأطراف.

تقدير متبادل

كيف ترى موسكو الرياض؟

ـ قوة إقليمية كبرى

ـ تمتلك كثيراً من أدوات القوة المؤثرة

ـ تمتلك مركزاً دينياً مؤثراً

ـ تمتلك ثروات هيدروكربونية هائلة

ـ تؤثر على أسواق الطاقة العالمية

ـ تمتلك واحداً من أغنى وأقوى الجيوش العربية

كيف تنظر المملكة لروسيا؟

ـ مهمة لضمان استقرار الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط

ـ أكبر قوة في أوروبا من حيث: المساحة والسكان والتأثير السياسي والثقافي

ـ لاعب قوي في أسواق الطاقة العالمية

ـ تشكل قوة عسكرية كبيرة

ـ راعية ثانية لعملية السلام

ـ تتبنى مبادرة الملك عبدالله كحلّ للسلام