سبق في القسم الثاني من هذا المقال الحديثُ عن خصوصية المملكة العربية السعودية، ومشروعية المحافظة عليها، وفي القسم الثالث سنتحدث عن خصوصية النشأة وخصوصية التاريخ للمملكة العربية السعودية:

حينما نتحدَّث عن السعودية نجدها تتميَّز بخصوصية النشأة، ‏والتاريخ، ‏وخصوصية المعتقد، ‏وخصوصية المكان، وخصوصية المواطن، ‏والتعرف على هذه الخصوصيَّات لازم، والمحافظة عليها مسؤولية عظيمة.

أما خصوصية النشأة: ‏فإنها الوحيدة من بين دول العالم المعاصر التي أنشأها أهلُها بعقيدتهم وسيوفهم ودمائهم على رقعةِ أرضٍ لم تتوحَّد في التاريخ سوى مرتين:

المرة الأولى: على يد رسول الله ﷺ، ثم انقطعت وحدتها ومركزيَّتها التاريخية بعد بني أميَّة، وبعد ذلك لم تكن أيّ من الدول توليها شيئًا من العناية.

والأخرى: على يد الدولة السعودية في طورها الأول، وفي طورها الثالث الذي نتفيَّأ ظلاله. ‏أما طورها الثاني فسقط قبل أن تستكمل فيه الدولةُ مشروعَها الوحدويّ.

وكذلك في طورها الثالث لم يشارك أبناءَ البلاد أحدٌ في إنشاء الدولة التي تعرَّض نشوؤها لنزاع داخليّ، كما تعرَّض لمحاولات إسقاطٍ من قوى خارجيَّة، أولها الدولة العثمانية التي كانت وراء إسقاط الدولة في طوريها الأوَّل والثاني، وثانيها بريطانيا التي حاولت تكييفَ الدولة بالشكل الذي تريد لكنها لم تستطِع، ولانهماك الإنجليز في الحربَين الكونيَّتين، ولظهور أميركا منافسًا اضطرَّت لترك السعودية وشأنها، ولا زال بعض المغرِضين يزعمون أن نشأة السعودية كانت بترتيبٍ بريطانيٍّ، وهو كلام منافٍ للصحة عقلًا وتاريخًا.

أما عقلًا فليس من المعقول أن بريطانيا المعروفة بقاعدتها الاستعمارية الشهيرة: (فَرِّقْ تَسُدْ) تساعد في تأسيس دولة توحِّد معظم أجزاء جزيرة العرب وعلى أساس عقديّ سلفيّ.

‏وأما تاريخًا فلا يملك أحدٌ أيَّ وثائقَ تثبت هذه الفرية، بل الوثائق على خلافها، ومن راجع مراسلاتِ الملك عبد العزيز مع البريطانيين، في الأوقات الحالكة كالحرب العالمية الأولى والحرب الثانية، ومن راجع اتّفاقيات رسم الحدود كاتفاقية دارين والعقير والمحمرة، ثبت لديه استقلالية الملك عبد العزيز، وأنه كان يتعامل مع بريطانيا وغيرها من الدول العظمى آنذاك تعامل السياسيِّ المحنك، الذي يعرف كيف يأخذ العظيم ويعطي الزَّهيد، وهذا ما فعَله رحمه الله، فقد كاد أن يأخذ الجزيرة بحذافيرها، وما استطاع أن يأخذه منها لم يستطع أن يوحِّده من قبلَه خلا أجداده رحمهم الله.

وكتب التاريخ تحفل بذكر مغازيهِ وحروبه في سبيل توحيد هذه الأقطار، ومن قرأها بإنصاف علم بُعد الملك عبدالعزيز عن الغرب بُعدَ الثريا عن الثرى، ولا يفوتنَّك ما ذكره محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة)، وكيف كشف هو للملك عبد العزيز كونَ بريطانيا هي من تدعم القلاقل في بلاده، وتُرسل جنيهات الذهب في الصناديق للمترددين عليها.

وحين تعارضت مصلحةُ بريطانيا مع مصلحة خصمه الآخر الدولة العثمانية أظهر الحياد، وأبطن نصرةَ خصمه العثماني لرابطة الإسلام، ودعمهم ضد بريطانيا في غزوهم لقناة السويس في الحرب العالمية الأولى بأربعة عشر ألف جمل، لكن الله قضى بخسارتهم في هذه الحرب وسقوط دولتهم.

وليس هذا موضعَ استقصاءٍ، وإنما موضع إلماع، والحقّ أن عبد العزيز هبةُ الله تعالى لهذه الأرض، فرحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عنا خير ما يجزي الصالحين.

هذه الخصوصية -أي: خصوصية النشأة- تعني: أن النظام الذي قامت عليه هذه الدولة هو ركيزتها التي ليس لها قيام دونها، فهذه الأنحاء التي تشتمل عليها الدولة لن يصحَّ لها وحدة ولن ينتظمها سلك إلا بهذا النظام لا غير، نظام الحكم الملكي القائم على الدعوة السلفيَّة، وقد حاولت العديدُ من الأسر عَبر تاريخ نجد والجزيرة العربية فعل ما فعله آل سعود من توحيد الجزيرة إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، بينما استطاعَ آل سعود أن يوحِّدوها ثلاثَ مراتٍ، وليس مرةً واحدة في تجربةٍ هي الأولى في التاريخ الإسلامي، حيث لم تعرف دولة تقوم بعدما تسقط إلا هذه الدولة، ومع كل سقوط لها لا يستطيع أحدٌ شغلَ مكانها، ولذلك فإنه بمجرد أن يُعْلِنَ أحدُ أبنائها تصدِّيه لمهمة إعادةِ الإنشاء حتى تأتلف عليه القلوب، وهذا ما جعل عبد العزيز رحمه الله يتمكَّن من كلِّ أنحاء مملكته، من البحر إلى البحر، ومن الشام إلى اليمن، في بضع وعشرين سنة.

أما خصوصية التاريخ: فممَّا تفخر به هذه الدولة أنها تنتمي إلى التاريخ النبوي الشريف، فأوَّل من وحَّد جزيرة العرب هو النبي محمد ﷺ، وثاني من وحَّد جزيرة العرب بعد رسول الله هو الإمام عبد العزيز بن محمَّد بن سعود وابنه سعود بن عبد العزيز رحمهم الله جميعًا. وقد استمرَّ أثر التوحيدِ النبويِّ حتى عصر الخليفة المتوكِّل، ثم صارت السيطرة على الجزيرة اسمية لا فعلية، ثم انفرطَ العقد.

نعم، كان بين انفراط عقد الجزيرة في العهد العباسي وبين الدولة السعودية دولٌ كالدولة العيونية والأخيضرية؛ لكنها دول لم تضمَّ معشار جزيرة العرب، إضافة إلى أنها لم تكن تتحكم فعليًّا إلا على أهل القرى الحاضرين بها، بينما لم يكن لها سلطة على ساكني البوادي.

أما السعودية في عهدها الأوَّل فقد شملت أكثر الجزيرة، كما أنها حكمت الحاضرة والبادية؛ والذي لا يعلمه الكثيرون أنَّ الدولة السعودية تكاد تكون هي الوحيدة التي استطاعت في تلك الحقب حكمَ البادية، حتى الدولة العثمانية في أوان قوتها لم تكن تحكُم سوى الحواضر والقرى، وأما البادية فكانت تكتفي بإعطاء شيوخ عشائرهم إتاوات مالية يتقوَّون بها على السيطرة على متبوعيهم من فرسان البدو، أو كانت تُقَاوِمُهم بالسلاح كما تفعل مع رعايا الدول الأجنبية.

وعلاقة الدولةِ السعودية بالدولة الأولى للإسلام التي أسَّسها رسول الله ﷺ لم تكن علاقة الاشتراك في توحيد المكان، بل كانت السعودية أكثرَ الدول التي قامت بعد الإسلام تبعيةً للمنهج النبويّ كما فهمه ونقله إلينا الصحابة وتابِعُوهم؛ وهو الشعار الذي حملَتْهُ طوال تاريخٍ نضاليٍّ صادق في مبادئه، فلم يُنْتَحَل لهذا النضال شعارات كاذبة مستوردة، أو يستعمل الخداع لترويجها، فالدولة السعودية الأولى التي وحَّدت الجزيرة من الفرات حتى بحر العرب، لم تكن لتصل لذلك دون العظيم من البذل والتضحيات، بذل وتضحيات من أبناء الأسرة الحاكمة، وبذل وتضحيات من الأسرة العلمية التي تولَّت ثقل الدعوة التي هي عصبية الدولة، وبذل وتضحيّات قدَّمها كلُّ من وقف مناصرًا لها حتى حقَّقت أهدافها.

يضاف لذلك أنها دفَعت ثمنَ هذا النجاحِ بعمليَّة السحق التي قام بها الترك والألبان بتآمر دوليّ شديد الوطأة، ولم يكن يتصوَّر أحدٌ أن دولةً يتمُّ سحقها قيادةً وشعبًا بهذا الشكل، يمكن أن تقومَ ثانية وثالثة، وتدفع لقيامها مرتين الأثمانَ الباهظة نفسها من الدماء والأموال والجهود.

إن تاريخ هذه الدولة في أطوارها الثلاثة فريد قليل النظير في تاريخ الإسلام، فيه من القِيم ومكارم الأخلاق والمروءات والفروسية ما ينبغي استحضارُه في كل زمانٍ وحينٍ استبقاءً له، لأن تضييع القِيَم التي أحاطت بهذا التاريخ وحمَتْه وحملته تضييعٌ للوجود.

إنَّ الشبهات التي يُطلقُها الآخرون حولَ تاريخ المملكة، هي أسلحةٌ لتجريد المواطن السعوديِّ من أبرز مقوِّمات فخره، وإيهامه أنه ينتمي إلى صحراء لا تاريخَ لها ولا نضال، ولا جذور ولا مشاركة حضارية، وهذا الوهم كفيلٌ بملئه بمشاعر النقص التي تجعَله دائمًا في مقام التابع الذي لا يستطيع الوقوفَ في مَنزلةِ الصدارة.

وقد رأينا كثيرين ممَّن ابتلِي بشعور النقص هذا، ووجدناه سريعَ الانخداع بدعايات الأعداء، سريع الذوبان والانهزام أمامها، وهذا النوع هم طُلْبَة أعداءِ هذه الدولة المروِّجين للمزاعم المكذوبة حولها وحول تاريخها.