تلقى المجتمع صدمة نفسية بالغة من جراء ما شاهده من تلك الجموع الغفيرة من الشباب والفتيات الذين اندفعوا كالسيل العارم لحضور حفل فرقة البوب الكورية BTS «ما وراء الكواليس» في ملعب إستاد الملك فهد، ضمن فعاليات موسم الرياض الحالي 2019 مساء الجمعة الماضي.

هذا الحدث الكبير، سواء في شكله أو مضمونه، يجب النظر إليه بدقة عالية ومن زوايا متعددة لعلها تكشف لنا الستار عن أسرار الاندفاع نحو الحضور والمشاركة، أو عن سحر التفاعل وتناغم الأداء أو عن طبيعة البناء النفسي لهذه الفئة من الشباب، وكيف تُفكر وما هي احتياجاتها النفسية والعاطفية والحسية التي تريد إشباعها؟.

فلو نظرنا إلى هذه الفئة العمرية من المجتمع لوجدنا أن أعمارها تتراوح بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين ربيعا، وهذه الفئة هي جيل الثلاثة عقود الماضية، وهي الفئة التي وقعت تحت أخطاء كثير من ضغوط التربية العنيفة والمتشددة، والالتزام المفرط بقيود العادات والتقاليد، والتي كانت تفرض عليهم عدم التعبير عن احتياجاتهم الداخلية، وإجبارهم على الانخراط في الأنشطة والبرامج الاجتماعية وغيرها مما يستهوي الكبار ويرضي طموحهم وغاياتهم، وكأنهم دُمى في أيديهم يحركونهم كيفما شاؤوا، وتعتمد على استئصال أحاسيسهم وميولهم وحاجاتهم على جميع المستويات، وتوجههم نحو ما تُريد، متجاهلة قيم البناء النفسي الخاص بهم، والتي تجعلهم يشعرون بذواتهم وكيانهم وطاقاتهم عبر مختلف الوسائل المتاحة، والتي قد نرغب فيها وتكون في حيز المباح أو التي لا نرغب فيها، سواء أكانت دخيلة على المجتمع من الخارج أو مما هو متاح فيه.

ومن يتذكر تلك المرحلة سيعرف مقدار القسوة والحرمان والكبت الذي كان السمة الأبرز في مدخلات التربية الأسرية والاجتماعية والإسلامية، وأن رجال الدين والآباء والمجتمع حرموا هذه الفئة من أبسط حقوقها في اختيار اللباس أو اللعب أو المشاهدة، أو ممارسة الفنون أو الحوار أو التعبير عن الذات أو الانفتاح، وتم التركيز فقط على التحذير من الانفتاح أو الاقتراب منه، وسار الأبناء مُجبرين على نهج مجتمعهم بطريقة شكلية وازدواجية أدت إلى تلون وتشكل الشخصية وفق البيئة والأفراد والحرية المتاحة للتنفيس عن المكبوتات والاحتياجات، والبعيدة عن الرقيب الأسري والديني والاجتماعي، وكانت هذه المعركة مع الشباب والفتيات بين كر وفر، فكلما فتح الأبناء ثغرة في سور حريتهم واحتياجاتهم استطاع المجتمع إغلاقها ومارس ضدهم العقوبة والحرمان.

وها هي الأسطورة الشعبية الألمانية حول عازف المزمار في مدينة هاملن تتكرر اليوم في كل المجتمعات البشرية المنغلقة التي لا تنتبه للحظة رحيل أبنائها على أنغام سحر لحن مزمار غيرها، معتقدة أن أبناءها متمسكون بألحانها التي لا تُطرب، والتي لا تُناسب عصر أجيالها ولا تُلبي احتياجاتهم أو تشبع ميولهم، وأن مجتمع مدينة هاملن لم يكن يتوقع التأثير الخارجي لسحر الألحان وقوة الأنغام في إخراج الأطفال من بيوتهم وهم يسيرون خلف الزَّمار والآباء والمجتمع ينظرون إلى قوة الطاقة المؤثرة فيهم، دون القدرة على إيقافها أو إبطال سحر ألحانها.

فهل تكمن المشكلة في جفاف طاقة العاطفة وأحاسيسها وقيمها في تربيتنا الأسرية والدينية والاجتماعية، أو في قوة مزمار فرقة البوب الكورية بألحانها السحرية وتأثيرها في مشاعر وأحاسيس الشباب والفتيات؟.

وهل ما زال الاعتقاد في قدرة أدوات التربية القديمة، كالنفوذ والسيطرة والعقاب والمنع، على توجيه الأبناء نحو قيم التربية السليمة والمتزنة؟

وهل سوف يبقى الطرح الساذج والسطحي بمنع هذه الفرقة الموسيقية وغيرها من الفعاليات والأنشطة دخول بلادنا هو الحل؟

وهل تتحمل هيئة الترفيه والشركات المنظمة مسؤولية مزمار فرقة البوب الكورية في سلب أحاسيس الشباب والفتيات منذ فترة خارج إرادتنا، أم أنها تستحق الشكر لأنها أعادتهم لنا وأمام أعيننا؟

أسئلة لا تحتاج إلى الإجابة عنها، بل إلى الوعي بها كي نفهم حقيقة المشهد!