سؤال مهم يتبادر إلى أذهان أصحاب العلاقة بالعلوم الفقهية والشرعية، وهو هل يمكن استثمار الخلاف الفقهي في كافة عصوره في دعم التماسك الاجتماعي المعاصر والمشاركة في عمليات العمران والإسهام في الحضارة الإنسانية المعاصرة؟.

الإجابة المختصرة هي (نعم ممكن)، أما الإجابة المفصلة، فهي أن ذلك متاح ولكن بقيود، والقيود من أبرزها: أن يساهم العلماء وطلابهم في تحقيق أمر العيش المشترك، والتسامح الفقهي، وتجديد النظر إلى الخلاف الفقهي، ليكون (بداية حل للمشكلات المعاصرة بدلا من أن يكون جزءا منها)، وتحديد الأصول الحضارية والاتجاهات المعاصرة للتعامل مع مسائل الخلاف وقضاياه، وتنشيط التعارف بين العاملين في المجال الإفتائي على اختلاف مذاهبهم، والخروج بمبادرات إفتائية تدعم الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي، واستثمار الخلاف الفقهي في كافة المجالات الاجتماعية والإنسانية، وتطوير الأفكار والبرامج والنشاطات التي يتشارك فيها علماء المذاهب المختلفة، بحيث تكون مرشدة لأتباع هذه المذاهب وداعمة للتسامح.

في مصر الكنانة، وبرعاية رئاسية، وتنظيم متقن من الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومتابعة من رئيس الأمانة مفتي الديار المصرية العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي علام، بُحث الموضوع المتقدم عبر مؤتمر عالمي عنوانه: (الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي)، ولفت الأنظار إلى ضرورة أن تتوفر لدى فقهاء الأمة النية الصادقة لاستثمار خلافاتهم واختلافاتهم وإدارتها بأسلوب رشيد يكون أداة فاعلة في دعم منظومة المشاركة الفقهية والإفتائية في حضارتنا المعاصرة، ودفع عجلة تطوير وتجديد الخطاب الديني في عالمنا الإسلامي الذي يمر، كما هو مشاهد، بتحديات كبيرة وكثيرة على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية وغيرها، وبذل مزيد من الجهد والتعاون من أجل مجابهة أخطار تيارات المفسدين من المتطرفين والإرهابين التي تهدد حاضر الناس ومستقبلهم.

(الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي) موضوع ممتع خاصةً إذا اقتنع المهتمون بأن الخلاف الفقهي في حقيقته ظاهرة كونية وصحية، تعكس مدى مرونة وحيوية الفقه الإسلامي، وملاءمته لكل زمان ومكان، وأن الخلاف سبب فاعل في تكوين ثروة فقهية وتشريعية قلما توجد في أي حضارة، وأن معالجة قضية إدارة الخلاف بطريقة حضارية من شأنه أن يؤثر تأثيرا إيجابيا في وحدة المسلمين وتعايشهم مع الديانات والثقافات والحضارات المختلفة، ولا يعني هذا التعامل الضروري المطلوب أن يكون الاجتهاد كلا مباحا لكل مدَّعٍ لا أهلية له، إنما المطلوب هو إمعان النظر إلى البعد الأخلاقي الذي كان عليه أسلافنا الكرام - رضي الله عنهم - وقيمهم النبيلة في مواطن الاختلاف حتى تتضح أمام بصائرنا معالم المنهج الحضاري في إدارة الخلافات الذي أثمر فيما مضى رحمة وتعايشا بينهم، في جوٍ يسوده الحب والرحمة والسلام، بعيد كل البعد عن أفكار التيارات الفاسدة التي لا تعرف في صفحات قاموسها إلا مفردات تكفير المخالف وتبديعه، وإباحة تفجيره، وسفك دمه.