كل دعوى للخصوصية تحول بيننا وبين حفظ تراثنا بطريقة فنية علمية وتحول بيننا وبين المشاركة الفاعلة ليست إلا (إسلام أصولي)، يعجز عن المشاركة في أدنى قضايانا كفهم أهمية (كرة القدم) على مستوى العالم، فلا يرى فيها إلا (تحكيماً بغير ما أنزل الله)، ومؤلفاتهم تشهد وبعض شيوخهم ما زالوا أحياء يرزقون، فكيف بقضايانا السياسية الكبرى مع صندوق النقد وهيئة الأمم المتحدة وغيرهما من الاتفاقيات الدولية.

ما تمثله المملكة العربية السعودية من مسؤولية يجعل واجبها يتجاوز الطبطبة على كتف (الإسلام الأصولي) ومجاملته، إلى الانشغال الحقيقي بتمثيل (الإسلام الحضاري) الذي يدافع عنه أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، لنرى حتى المسيحيين العرب يدافعون عن (الإسلام الحضاري) ويفاخرون به، ولهذا كانت مؤلفاتهم وكتبهم التي أضافت للإسلام (حضارياً) وعلى رأسها كتاب (إدوارد سعيد) (الاستشراق) الذي التقفه الإخوان المسلمون بالقبول والمديح ليغالطوا به العوام في كراهية الغرب، طارحين مشروعهم الأصولي الذي سيجعل (إدوارد سعيد) في بلدهم مواطناً من الدرجة الثانية لأنه مسيحي، فعن أي إسلام حضاري يتحدث الإخوان المسلمون وأشباههم من السرورية وغيرهم.

لا نريد خصوصية تعجز عن التفاعل الحضاري، الخصوصية امتياز معقول يفهمه العالم أجمع، وما عدا ذلك لا يتجاوز

ما حصل من أحد المستشرقين (كريستيان سنوك) قبل أكثر من مائة عام، إذ (يمتدح وضع العبيد في الجزيرة العربية ويصفه بأنه أكثر عدالة من وضع العبيد في بلدان أخرى، وبإمكاننا قبول وجودهم في الجزيرة العربية كمحمية يشاهدها العالم ويقوم بزيارتها)، هو لم يقل هذا الكلام صراحة، لكن امتداحه لوضع العبيد الجيد خصوصاً في مكة وجدة، مع توجيه اللوم للدول التي تضغط باتجاه تحرير العبيد ومطالبته بخصوصية للجزيرة العربية تبقى فيها أسواق للنخاسة، يدل على أن بعض من يدافع عن خصوصيتنا من الغربيين ليس في الحقيقة يدافع عن حقنا في التميز على المستوى (الإنساني الأخلاقي الحقوقي)، بقدر دفاعه عن حقه في الاستمتاع بنا كمحمية (بدائية) للفرجة الحضارية التي يأتي إليها الرجل ذو العيون الزرقاء، كما وفر محميات للهندي الأحمر جعلته عاجزاً حتى هذا التاريخ عن المنافسة على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض رغم أنه المواطن ابن الأرض والتاريخ.

الغرائبية التي يبحث عنها البشر ونعيشها نحن كسياح عندما نزور بلدان الدنيا شرقاً وغرباً لا بأس بها ولا نراها إشكالاً حضارياً، الإشكال الحضاري أن نلبس ثوب الخصوصية كوهم تميز حضاري يخفي تحته تخلفا يرتدي ثوب القلق على الهوية، يشبه قلق من لا يريد تعلم لبس ربطة العنق، فيتعلل بغضب: بأنه لا يتخلى عن هويته في الثوب والشماغ، متناسياً أن اليابان لبست البدلة كاملة وهي من أقوى الدول تمسكاً بهويتها، لقد أدركت أن الهوية أوسع من بنطال جنز، لكن كثيرين عندنا يرونها أضيق بكثير.

ماليزيا تفاخر بتراثها ما قبل الإسلام، إندونيسيا المسلمة تفاخر بتراثها ما قبل الإسلام، ونحن ما زلنا نرتبك من قراءة (مسلة تيماء) أو نخجل من الحديث العلني عنها خوفاً من ارتباكات (الإسلام الأصولي)، فلا ندري هل نكون سعداء بأن متحف اللوفر حفظها من أيدي العابثين بآثارنا أشباه داعش الذين عبثوا بآثار الرافدين وقبلهم القاعدة في تمثال بوذا التاريخي تحت عنوان (حماية العقيدة)، أم أننا لم نصل إلى المستوى الحضاري اللائق للمطالبة باستعادتها إلى أرضها الحقيقية جغرافياً وتاريخياً.

قبل أن نستعيد ما بأيدي الحضارات المتقدمة، علينا أن نصل للوعي الحضاري والفكري الذي يؤهل أبناءنا لفهم معنى (آثار) بعيداً عن كل الحساسيات الدينية المفتعلة، فعمرو بن العاص فتح مصر هو والصحابة الكرام ولم تشتك الأهرام وقبورها وأبو الهول من أزمات عقائدية لم يعرفها الصحابة واصطنعها من بعدهم ممن تخيل في الآثار ما ليس فيها، لكنه التعصب الفكري يجعل المرء يحيل كنوزه التاريخية إلى هباء منثور مفقود، فهل في عقيدة الشيخين (أبي بكر وعمر) رضي الله عنهما ما يثير المزايدة الدينية عليهما، إذ حرصا على أن يدفنا بجوار (قبر الرسول)، فهل في حرصهما خدش للعقيدة، أم في حرصهما دلالة حب لا تنقض الإيمان إلا عند من لا يعرف معاني الحب، وهل هناك معنى لأعلى مراقي الإيمان سوى (الحب) لمن عرف معنى (الإحسان).